العيد وغزة وماء الحياء والنخوة العربية!

صلاة العيد في قطاع غزة

عيد مصبوغ بدماء الشهداء في غزة؛ فالمحتل يواصل الإبادة، والعالم لم يهتز لها حتى الآن، كأنما غار ماء الحياء عن وجه الإنسانية.

وقف العالم مستسلما اتجاه ما يحدث في غزة، يشاهد الإطاحة بالقانون الدولي، وهدم النظام العالمي؛ لأجل عيون إسرائيل، الذراع الاستعماري لأمريكا والغرب في المنطقة العربية.

جاء العيد وسؤال يتردد: أين النخوة مما يحدث في غزة؟ هل ضلت النخوة طريقها في الصحاري العربية؟ وأين المروءة الإسلامية؟ هل غرقت المروءة في بحار الوهن المتلاطم الأمواج، وانجرفت في ظلمات محيطات العجز الإسلامي؟

يرى الجبناء أن العجز عقل * وتلك خديعة الطبع اللئيم!

ما لنا نرى الأمة كافة وقد تمكن من قلوبها “شحّ” بلغ أشده، و”جبن” في منتهى الشدة، يكاد يخلع القلوب من شدة الخوف؟!

يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: “شرّ ما في الرجل شحّ هالع وجبن خالع”، فكيف إذا كان الشحّ والجبن شرًّا قد أصاب غالب الأمة إلا من رحم الله؟!

صرخات نساء غزة تدوّي مختلطة بتكبيرات العيد، ولسان حال أهل غزة: إن لم تغيثونا فكفوا المتآمرين والمتصهينين منكم عنا، فلا يطعنوننا في ظهورنا، ونحن كفلاء بعدوّنا وعدوّكم، فما يفُتّ فينا ليس قوة العدوّ ولكن طعنة الأقربين من بني جلدتنا، ومن ينتسبون لديننا وعقيدتنا.

أين نخوة المعتصم؟

يقلب كثيرون صفحات تاريخ مجيد للأمة يُلهم حاضرها؛ ليستنهضوا به همما فترت وعزائم خارت؛ عسى أن ينفر من يحمل شهامة عمر، ومروءة الحجاج، ونخوة المعتصم، وضمير صلاح الدين.

“وين الإسلام وين النخوة العربية؟” صرخة مسنّة جلست على أنقاض بيتها في غزة، تستغيث بعد الله العرب والمسلمين. إنها صرخة تتكرر كل يوم على لسان حرائر غزة وفلسطين.

رب “وامعتصماه” انطلقت * ملء أفواه الصبايا اليُتَّمِ

لامست أسماعهم لكنها * لم تلامس نخوة المعتصم!

في عهد الخلافة الأموية، وزمن ولاية الحجاج على العراق، كانت استغاثة نسوة مسلمات أسرهن القراصنة الهنود، عندما كن في سفينة في عرض البحر متجهة إلى العراق، ونداء إحداهن “يا حجاج”، سببا في تسيير الجيوش المتتالية إلى بلاد السند، حتى مكن الله فتحتها على يد محمد بن القاسم.

في زمن عزة الأمة الإسلامية ومجدها، في عهد الخلافة العباسية، دوّت صرخة “وامعتصماه”، التي أطلقتها امرأة مسلمة مكلومة في عمورية، فشقت سماء التاريخ، وترددت أصداؤها في قصر الخلافة في بغداد، فجهز المعتصم لأجلها جيشا ضخما من نخبة المسلمين، يقوده خيرة القادة، وكان بنفسه على رأس الجيش، ووقعت معركة من معارك رمضان المجيدة، أثبتت أن كرامة المسلم وروحه ودمه أغلى من كل شيء، مهما كانت العواقب، وكان فتح عمورية؛ ذلك الفتح الذي وإن كان قليل الأثر استراتيجيا، فإنه كان عميق التأثير بعيد الأثر بمقاييس العزة والكرامة.

كان فتح عمورية فتحا أطلقته استغاثة امرأة مسلمة، فهُدت بسببه أسوار أعظم مدائن الروم؛ فلم تكن “وامعتصماه” مجرد صرخة في وادٍ، كما هي الآن في زمن الوهن والعجز الإسلامي والعربي.

لكن لسان حرائر غزة وأهلها يقول: مهما حدث لن ننعى “نخوة المعتصم” ففي غزة تُبعث الروح من جديد في نخوة المعتصم، وتُستنهض روح العزة والإباء للأمة العربية والإسلامية، وينطلق شعاع من نور ليوقظ الغافلين.

شاهد على أحوال الأمة

قديمًا، ورغم ما كان عليه العرب من جاهلية وفرقة وتناحر قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النخوة بما فيها من معاني الشهامة والرجولة والغيرة، ونصرة المظلوم، ونجدة المستغيث، وإجارة المستجير، كانت تجري فيهم مجرى الدم في العروق، وقرت في وجدانهم قبل الإسلام وبعده، ولم يتخلوا عنها حتى في الحروب، وفي أشد الأوقات ضراوة، وكان القتل بحد السيف أهون على أحدهم من أن يُطعن في مروءته.

وبين الجاهلية العربية قديما بنخوتها، وجاهلية حديثة تجافي النخوة، يعيشها العرب والمسلمون، تمر الأيام، ويجيء العيد تلو العيد، والأمة العربية والإسلامية في وادٍ، وغزة وفلسطين في وادٍ آخر. فبينما يمارس الاحتلال الإسرائيلي أبشع الجرائم في تاريخ الإنسانية بحق أهل غزة وفلسطين، تعيش الأمة فعليا واقعا منسلخا عما يحدث، وكأنما اعتاد الجميع منظر الدماء والأشلاء والدمار، ولم يعد ذلك يحرك فيهم ساكنا؛ فغاب الردّ المعبر عن نخوة الشارع العربي والإسلامي، وتوارى “خوفًا أو كبتًا”، في الوقت الذي حركت الإنسانية بعضا من الجماهير الغربية ليعلنوا رفضهم ما يحدث في غزة، فأحرجوا العرب والمسلمين عامة!

وبينما تُمطَرُ غزة بأفتك أنواع القنابل والمتفجرات، ويسقط يوميا مئات الشهداء والجرحى، غاب ماء الحياء عن غالبية المسلمين، وهم بين متخمين متسمرين ساعات طوالا أمام شاشات التلفاز، يتابعون مسلسلات وبرامج ترفيهية، أعدت بعناية لرمضان خصيصا، وأنفقت عليها مئات الملايين من الدولارات؛ بغية تغييب وعي الأمة وسلخها عن هويتها، وآخرين يقيمون الليل لاهثين وراء المهرجانات والاحتفالات.

وفي الوقت الذي يتهافت فيه العرب والمسلمون على تجهيز ما يلزم العيد من مطعم وملبس وترفيه ورحلات، يقضي إخوة في العروبة والدين عيدهم “خاوية بطونهم”، يبحثون عن أشلاء شهدائهم وسط ركام المباني المدمرة، وقد تحولت غزة إلى أكبر مقبرة للشهداء في العصر الحديث.

ختاما

وما بين تاريخ أمة متخم بشواهد النخوة والمجد والعزة، وحاضر مثقل بالوهن، وغابت فيه النخوة العربية، وغار فيه ماء الحياء عن وجه الإنسانية، يسطر التاريخ أن غزة عاصمة المقاومة في العالم، وأيقونة العصر، والرمز التاريخي للتحرر من الهيمنة والاستبداد العالمي، تضع الأمة على طريق عودتها، وحفظ ماء وجهها، واستثارة نخوتها، ليكون عيدها يوم عودتها إلى دينها، واسترداد حريتها ومجدها، بعيدا عن زمرة المتصهينين، الذين رضوا أن يكونوا مع الخوالف والقاعدين.

{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}.

المصدر : الجزيرة مباشر