انتفاضة الطلبة.. تمهيد الطريق للمستقبل

المظاهرات مستمرة في جامعة كولومبيا (رويترز)

بمقدار ما انتصرت الرواية الفلسطينية وانهزمت السردية الإسرائيلية حول عملية السابع من أكتوبر الشجاعة، جاءت انتفاضة طلاب الجامعات الأمريكية الواسعة وغير المسبوقة تعبيرًا عن هذا الانتصار، وتأكيدًا للهزيمة السياسية والإعلامية المدوية للاحتلال ورعاته في أمريكا وأوروبا.

منذ زمن بعيد لم تتوحد الحركة الطلابية الأمريكية على قضية بمثل ما ظهر في قضية دعم نضال الشعب الفلسطيني، ورفض حرب الإبادة التي يتعرض لها قطاع غزة منذ نحو سبعة أشهر، فمن كولومبيا إلى تكساس ومن أوهايو إلى هارفارد ومن جورج واشنطن إلى جورج تاون وغيرها، واصل الطلاب الأمريكيون احتجاجاتهم دعمًا لشعب فلسطين.

الانتفاضة تفجرت وانتشرت من جامعة إلى أخرى على خلفية استدعاء رئيسة جامعة كولومبيا ذات الأصل العربي -والعقل الاستبدادي- الشرطة للطلاب الذين قرروا الاعتصام في ساحة الجامعة رفضًا للعدوان الصهيوني ودعمًا لنضال أهل غزة، فلا مكان للاستبداد العربي وسط مجتمع نال مساحة هائلة من الحريات المدنية والأكاديمية، حتى لو ظهرت الإدارة في الولايات المتحدة خلال تعاملها مع الانتفاضة الطلابية كسلطة حكم آتية من دول الديكتاتوريات المهيمنة على مقاعد الحكم في دول الشرق الأوسط، تقمع وتعتقل وتصادر المجال المفتوح، وتحاول الانتصار لسرديتها البائسة والمنهارة عن معاداة السامية، تلك الأسطوانة التي سحقها التحرك الطلابي بقسوة وبلا تردد.

في الدول التي نالت الحرية بشكل حقيقي ينتصر المجتمع وقواه الحية على السلطة بنفوذها وأجهزتها الأمنية، هذه حقيقة مؤكدة.

تمهيد الطريق للمستقبل

أعادت الانتفاضة الحالية إلى الأذهان الاحتجاجات الطلابية الأمريكية في قضايا مهمة وشائكة منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، لا سيما التحركات الشهيرة الرافضة للحرب الأمريكية على فيتنام، فقد بدأت الاحتجاجات وقتها بتحركات صغيرة في نهاية الستينيات، مهدت الأرض وغيرت المزاج العام الأمريكي، قبل أن تتحول إلى تيار اجتماعي كبير وغاضب وضاغط رفضًا للتورط في فيتنام، لتجبر السلطة هناك إلى الانسحاب النهائي منها.

في الكثير من القضايا المهمة والحساسة شكلت التحركات الطلابية الأمريكية التمهيد المناسب لتحولات كبرى في العقل الأمريكي وفي سياسات الإدارات المتوالية على السواء، فلم تكن قضية فيتنام هي الوحيدة، بل إن قضايا مثل رفض الفصل العنصري في جنوب إفريقيا ودعم الحقوق المدنية، والانحياز إلى حقوق الأمريكيين “السود” وغيرها من ملفات شائكة، كانت التحركات الطلابية هي نقطة البدء لتغيير كبير في السياسات والقوانين والقواعد الحاكمة للدولة.

من هنا تأتي قيمة الانتفاضة الشجاعة التي يقودها طلاب أمريكيون من جيل جديد، يرفض بشكل قاطع السرديات القديمة، ويفضح الازدواجية التي تحكم عمل الإدارات الأمريكية التي تتحدث عن حقوق الإنسان ليل نهار في اللحظة نفسها التي تتورط في دعم حرب إبادة لشعب يقع تحت احتلال عنصري مجرم.

أبى ضمير هذا الجيل وإنسانيته أن يقبل هذا التناقض المذهل بين صورة أمريكا راعية الحريات والديمقراطية والمشاركة السافرة في عدوان همجي مجنون بالمال والسلاح والدعم السياسي.

في مظاهرات طلاب جامعات “النخبة” الأمريكية التي يتخرج فيها صناع القرار في المستقبل ما يدعو إلى الأمل في أجيال قادمة أكثر انحيازًا للعدل والإنسانية، وأقل إيمانًا بالمعايير المزدوجة التي حكمت الإدارات الأمريكية منذ عشرات السنين، ثم إن هذا الأمل يمكن أن يمتد ليخرج الجيل الجديد أوضح في رؤيته وانحيازه إلى الحق الفلسطيني الضائع على طاولة الدول الكبرى.

قبل هذا كله وبعده، هناك في هذه المظاهرات الفريدة ما يدعو إلى احترام المقاومة الفلسطينية، وتقدير ما قدمته بشجاعة يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والنصر السياسي الكبير الذي انتقل بالقضية الفلسطينية كلها إلى مساحات أخرى أكثر أهمية في كل دول العالم.

شبكات التواصل الاجتماعي تحكم العالم

خلال سنوات طويلة، ورغم مساحات الحرية الواسعة التي تمتع بها الإعلام الأمريكي التقليدي، لم يكن مسموحًا للرواية الفلسطينية أو الصوت الفلسطيني أن يكون له صدى يُذكر، وظلت وجهة النظر الصهيونية هي السائدة والمتسلطة على العقل الأمريكي لأجيال عدة، كان هذا هو الخط الأحمر الذي لا يمكن تجاوزه، فتكذيب الرواية الصهيونية أو تفكيك مضمونها المتهافت هو والمحظورات سواء، ونشر ما يؤكد أن الاحتلال هو أصل كل الشرور مما لا يُسمح به إلا في أضيق الحدود.

ثم جاءت شبكات التواصل الاجتماعي بمساحات الحرية الواسعة التي تتمتع بها لتضرب هذا النظام المستقر منذ سنوات في مقتل، ولتنتصر هذه الشبكات على الإعلام التقليدي بأحادية وجهة نظره ومعالجته الزائفة والمنحازة ضد طوفان الأقصى.

بحماس ملايين العرب وانحيازهم إلى القضية الفلسطينية، وبالمتابعة الدقيقة لتفاصيل حرب الإبادة الصهيونية، انهالت آلاف الصور والفيديوهات على العقل والضمير الغربي، ضربت الثوابت الكاذبة التي تربى عليها الجيل الأمريكي الحالي، وكشفت ما يحدث لشعب مسالم يقع ضحية لاحتلال عنصري لا يتورع عن القتل والتنكيل. أحدثت الشبكات الاجتماعية زلزالًا في ضمير أجيال جديدة هالها ما تراه للمرة الأولى، وأوجعتها صور النساء والأطفال الذين تقتلهم الطائرات والدبابات الأمريكية بيد صهيونية، ولم تستطع هذه الأجيال أن تقبل التناقض الصارخ وغير الإنساني في الموقف السياسي للدولة الكبرى في العالم، هذا الجيل الذي قرر فجأة وبدون مقدمات رفض العدوان والانحياز إلى إنسانيته حتى لو اصطدم بأفكار مستقرة منذ عشرات السنين.

ولعل المفارقة الكبرى هي أن تلك الدول التي اخترعت شبكات التواصل الاجتماعي كواحدة من مظاهر العولمة، وكإحدى وسائل ومحاولات “تسييد” نمط تفكير واحد وثقافة واحدة في العالم كله، لم تكن تعلم أن هذا السلاح سيصيبها هي أيضًا، يوم أن يهدم الرواية البائسة المنحازة إلى الصهيونية دائمًا وأبدًا، وقبل أن يخرج جيل جديد من بين صفحات تلك الشبكات لينفجر غضبه في الجامعات تأييدًا للحق الفلسطيني، وليغزو العلم الفلسطيني كل ساحات الجامعات الأمريكية بعد أن ظل يرفرف في الشوارع طوال سبعة أشهر مضت.

ماذا يفعل العرب؟

بإدراك العرب أن مظاهرات الطلبة في أمريكا هي المقدمة لتغيير سيطرأ في المستقبل القريب على المزاج الأمريكي، وأن الاحتجاجات الطلابية ستكون هي التمهيد المهم لما هو قادم، يمكن أن تحصد القضية الفلسطينية مكسبًا مهمًّا في سبيل النضال المتواصل حتى تحرير الأرض، فإدراك ما يحدث هو الخطوة الأولى للترتيب لما هو قادم.

ثم بشكل عاجل، فإن تواصل المؤسسات التعليمية والسياسية العربية مع هذا الجيل الأمريكي الجديد، وإطلاعه على حقائق الصراع مع الصهيونية، وعدالة قضية الشعب الفلسطيني، هو مدخل مهم لتغيير يمكن حدوثه في المستقبل لصالح الحق الفلسطيني.

هذا الجيل الأمريكي منح فرصة مهمة للعرب يمكن أن تسهم في تغيير المعادلة السياسية الظالمة والمنحازة إلى إسرائيل في الغرب الأمريكي والأوروبي منذ عشرات السنين، وفي اغتنام تلك الفرصة ما يؤكد الانتصار في معركة طوفان الأقصى، ويرسخ للنجاح السياسي والاستراتيجي المهم الذي حققته قضية العرب الأولى، وفي ضياع هذه الفرصة هزيمة عربية جديدة، وإهدار لفرص مهمة تخصصت الأنظمة العربية في إضاعتها منذ سنوات طويلة.

المصدر : الجزيرة مباشر