“ديمقراطية أوروبا” في مرآة مهرجان ميونيخ السينمائي 2024!

شعار مهرجان ميونيخ السينمائي للأفلام الوثائقية (منصات التواصل)

في دورته التاسعة والثلاثين لعام 2024 جاء مهرجان ميونيخ السينمائي للأفلام الوثائقية مختلفًا. فبدلًا من تسليط الضوء على قضايا العالم المتنوعة كما اعتاد، اهتم بقضية الديمقراطية في أوروبا التي تهددها أخطار تصاعد اليمين المتشدد، وانتشار العنصرية والكراهية، وازدواج المعايير، والإسلاموفوبيا وغيرها.

أكثر من 109 أفلام من 51 دولة استمر عرضها من 1 إلى 20 مايو/أيار الحالي، لكن التركيز جاء على 5 أفلام ناقشت الديمقراطية في خمس دول أوروبية هي المجر، وألمانيا، والنمسا، وروسيا، والدنمارك. وكانت في الحوار عقب مشاهدة هذه الأفلام بين صناعها والجمهور متعة لا تقل عن متعة مشاهدة الأفلام نفسها، خاصة أنها المرة الأولى التي يتطرق فيها المهرجان إلى مناقشة الديمقراطية الأوروبية على هذا النحو.

اليمين المتطرف يهدد ديمقراطية ألمانيا

قد لا يكون غريبًا طرح مسألة الديمقراطية في مهرجان هذا العام لما يدور في القارة الأوروبية الآن من خلافات، ومشاكل، وانقسامات، وتباين في وجهات نظر القادة الأوروبيين، وسن قوانين متشددة حيال اللاجئين ومحاولة ترحيلهم إلى دول إفريقيا كما فعلت بريطانيا، أو الاستمرار في تغذية الصراع الروسي الأوكراني الذي يهدد بحرب شاملة.

ما يهمنا هنا هو تلك الأفلام التي انتقدت الخط الديمقراطي في دول أوروبا. فالفيلم الألماني “أجزاء من المقاطعة” دارت أحداثه في محيط مدينة “تورينغن” الألمانية حيث يعيش في ضواحيها أوساط من الجماعات اليمينية المتطرفة، مع مجموعات من الوافدين الجدد واللاجئين أصحاب الثقافات المختلفة. ويرصد الفيلم الصراع بينهما، وكيف ينظر كل جانب إلى الآخر بنظرة الشك والريبة.

وفي حلقة المناقشة التي أعقبت عرض هذا الفيلم كان الانتقاد واضحًا من قبل الجمهور وصناع الفيلم للديمقراطية الألمانية التي تترك اليمين المتطرف على هذا النحو من التشدد ومضايقة الأجانب في ألمانيا. وشارك الجمهور صناع الفيلم في طرح السؤال هل هذه هي الديمقراطية في ألمانيا؟ ثم أليس صعود اليمين المتطرف في أرجاء البلاد على هذا النحو يشكل تهديدًا مباشرًا للديمقراطية؟ وأيضًا في جلسة الحوار التي شارك فيها مدير المهرجان “دانييل سبونسيل” تساءل قائلًا: هل يمكن أن تصمد الديمقراطية الغربية أمام كل تلك التغيرات التي تشهدها القارة الأوروبية؟

الأفلام تنتقد.. والقادم أسوأ

أما فيلم “الديمقراطية السوداء” المنتج في المجر فهو يسلط الضوء على تراجع الديمقراطية في المجر على يد “فيكتور أوربان” وتجري أحداث الفيلم من خلال ثلاث ناشطات في مجال الحريات يتعرضن للعنف والمضايقة من قبل السلطة التي لا تعير اهتمامًا لحقوق الإنسان. أما الفيلم النمساوي “ميدان بال هاوس” فهو يركز الضوء على كيفية صعود المستشار النمساوي “سيباستيان كورتس” إلى سدة الحكم وما عرف عنه من أنه يميني متشدد، ثم ما لبث أن سقط في تهم بالفساد، وحكم عليه بالسجن مع إيقاف التنفيذ. وفي فيلم “القافلة والكلاب” وهو إنتاج ألماني لسنة 2024، فهو يسلط الضوء على الأوضاع داخل روسيا ومناهضتها للنشطاء وأصحاب الرأي، ويوجه انتقادًا إلى الدكتاتورية الروسية من خلال بطل الفيلم الصحفي الروسي ديمتري موراتوف العامل في صحيفة “نوفايا غازيتا”. ويركز الفيلم على شجاعته، والأخطار التي تهدد حياته بسبب استمراره في المعارضة، وفي نفس الوقت يسرد الفيلم أيضًا قصة منظمة “ميموريال” لحقوق الإنسان الروسية التي حصلت على جائزة نوبل ويصور مشاهد للمضايقات التي تتعرض لها من قبل السلطات الروسية، ويطرح سؤالًا في نهاية الفيلم عن قدرة الصحفي والمنظمة على الاستمرار في مواجهة النظام، وهل سيستسلمون ويختارون المنفى قبل أن تصبح حياتهم في خطر؟!

الدنمارك في الفخ

آخر الأفلام هو فيلم “الديمقراطية الدنماركية” وهو يسلط الضوء على منظمة “SIAN” المعادية للإسلام في الدنمارك، التي تضم 2000 عضو، وترفع شعار “أوقفوا أسلمة الدنمارك”. ويصور الفيلم كيف تصول وتجول في مواجهة المظاهر الإسلامية في البلاد، والبلبلة والمخاوف التي تحدثها عند الشعب عندما تصر على رفع شعارها “أوقفوا أسلمة الدنمارك” البعيد كل البعد عن الحقيقة، لهذا كان الفيلم صريحًا في التشكيك في ديمقراطية الدنمارك التي ترفض أقلية تتمسك بدين مخالف لدين الدولة.

كان هناك إجماع في حلقات النقاش عقب عرض تلك الأفلام على أن الديمقراطية الأوروبية يجب أن تكون قادرة على تمثيل مصالح الناس بمن فيهم الأقليات المختلفة، وتكون قادرة على تنميتها، بل إن أعداء الديمقراطية يجب أن يتم احتواؤهم أيضًا.

رغم رسالة هذا المهرجان وأهميته الكبرى، فإنه لا يحظى بشهرة المهرجانات التي تروج للأفلام الروائية الكبيرة، مثل مهرجان كان وبرلين وغيرها أو حتى  مهرجان الجونة الذي يركز على العري والابتذال، فدوره يقتصر على سينما الواقع من خلال التوثيق لأحداث العالم سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو حتى اقتصادية. ويقال إن أفلامه تتم صياغتها بنبض وحركة الشارع، وغالبًا ما يلاحظ أن جمهور هذا المهرجان من المثقفين والطلاب والفئات التي تهتم بقضايا العالم.

الربيع العربي في ذاكرة المهرجان

أتذكر جيدًا أن المهرجان في دورته السابعة والعشرين عام 2012 إبان اندلاع الثورة المصرية، خصص دورته تلك للربيع العربي، وعرضت في تلك السنة عدة أفلام حازت إقبالا غير عادي مثل فيلم “مولود في 25 يناير” للمخرج أحمد رشوان الذي اهتم بتصوير حالة الفرح والإشراق التي ظهرت على المصريين بداية الثورة قبل أن يتبدل الحال وتنقلب الثورة إلى إحباط وفشل، وفيلم “العودة للميدان” للتشيكي بيتر لوم، وفيلم الثورة. وكلها أفلام وثقت الثورة المصرية بعيون مختلفة. ولم تخرج تلك الأفلام وقتها عن سياسة المهرجان الذي يهتم بنبض الشارع في كل أنحاء العالم.

المصدر : الجزيرة مباشر