كيف أسست إيران نظاما سياسيا معقدا؟

المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي (رويترز)

من المهم لنا نحن جيران إيران، والمتأثرين بسياساتها وتحالفاتها أن نفهم طبيعة نظامها السياسي، وكيف تتخذ القرارات، وما هي مراكز صنعها؟ والأوزان النسبية لكل منها؟ يفيدنا ذلك في فهم السياسات، والقدرة على توقعها، وتوقع مدى ثباتها أو قابليتها للتغيير، فقرار المرشد الأعلى يختلف كثيرا في قوته وحجيته عن قرار رئيس الدولة، أو قرار رئيس القضاء إلخ، كما سيتضح من تفصيل هذا النظام.

ظلت إيران محكومة بالنظام الملكي الشاهنشاهي البهلوي (نسبة لأسرة الشاهنشاه رضا بهلوي) منذ عام 1925 بعد انقلاب رضا بهلوي على الشاه أحمد ميرزا القاجاري آخر ملوك الدولة القاجارية، وحتى إسقاط حكم الشاه بثورة شعبية عام 1979، لتنتقل الدولة بعد الثورة إلى نظام حكم جديد معقد، وإن ظل محافظا على مركزية السلطة التي حكمت البلاد دهرا طويلا، فبدلا من الشاه الذي كان صاحب السلطة المطلقة أصبح المرشد الأعلى هو صاحب هذه السلطة المطلقة وإن بشكل ناعم.

مراكز سلطة مختلفة

تضمن الدستور الإيراني الصادر عام 1979 والمعدل 1989 تفاصيل النظام السياسي كأي دستور آخر، وضمن هذا النظام تتشارك إيران مع بقية دول العالم نظام السلطات الثلاث المعروف: التنفيذية ويمثلها رئيس الجمهورية الذي يتولى أيضا منصب رئيس الوزراء، والتشريعية ويمثلها مجلس الشورى المركزي ومجالس شورى المحافظات، ومن حق مجلس الشورى استجواب رئيس الجمهورية الذي عليه أن يلتزم بالحضور والرد خلال شهر، وأخيرا السلطة القضائية بشقيها المدني والعسكري، لكن النظام الإيراني يتضمن مؤسسات أخرى صاحبة نفوذ أكبر لا يوجد مثيل لها في النظم السياسية التقليدية الأخرى، وتتقاسم هذه المؤسسات مع المؤسسات التقليدية السلطات، لكنها تزيد عليها بصلاحيات أخرى، وهي تحفظ للنظام قدرا أكبر من الاستقرار والقدرة على مواجهة الأزمات والتحديات وبالذات في حال خلو أي منصب رئيسي بما فيها المنصب الأهم وهو المرشد الأعلى ومن بعده منصب رئيس الجمهورية كما هو حادث الآن بعد الوفاة المفاجئة للرئيس رئيسي الذي سيخلفه وفقا للدستور نائبه محمد مخبر على أن تجرى انتخابات رئاسية جديدة خلال 50 يوما.

يقوم النظام الإيراني بالأساس على نظرية ولاية الفقيه العادل، وهي نظرية شيعية لا مثيل لها في المذاهب الإسلامية الأخرى، ويكرس الدستور هذه النظرية في نصوص عديدة، فهي أحد المبادئ الأساسية بعد الإيمان بالله، واليوم الآخر والوحي، وفقا للمادة الثانية من الدستور، وهي البديل في زمن غيبة الإمام المهدي عند الشيعة، وفقا للمادة الخامسة، ووفقا لهذه النظرية فإن مؤسسة المرشد الأعلى أو القيادة هي المؤسسة الأهم، وصاحبة السلطات والصلاحيات المطلقة.

فالقائد (المرشد الأعلى) هو صاحب الكلمة العليا، إذ يستطيع أن يلغي قرارا للرئيس أو تشريعا للبرلمان، أو حكما للقضاء، لكنه نادرا ما يمارس هذه الصلاحيات، ويترك السلطات التقليدية تمارس عملها، ويتدخل نادرا عند اللزوم، ولا ينتخب القائد مباشرة من الشعب، وإنما من خلال مؤسسة مجلس الخبراء وهم 88 عضوا من الفقهاء المجتهدين منتخبين من الشعب، وفقا لشروط خاصة (المادة 109).

سلطات مطلقة للقائد

وكما قلنا فإن للقائد صلاحيات تتجاوز كل المراكز السياسية الأخرى من رئيس وبرلمان وقضاء، فهو الذي يرسم السياسات العامة للدولة، ويشرف على حسن تنفيذها، والذي يصدر الأمر بالاستفتاء العام، وهو القائد العام للقوات المسلحة، الذي يعلن الحرب والسلام والنفير العام، وهنا نتذكر أن الخميني بصفته القائد هو الذي أصدر قرارا بوقف الحرب مع العراق “متجرعا السم” حسب تعبيره، وهو الذي له سلطة تنصيب رئيس الجمهورية بعد انتخابه، وعزله بعد استجواب برلماني أو حكم قضائي، وتنصيب وعزل وقبول استقالة فقهاء مجلس صيانة الدستور، ورئيس السلطة القضائية، ورئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، ورئيس أركان القيادة المشتركة، والقائد العام لقوات حرس الثورة، والقيادات العليا للقوات المسلحة، وحل الخلافات بين أجنحة القوات المسلحة، وتنظيم العلاقات بينها، وحل مشكلات النظام التي لا يمكن حلها بالطرق العادية، وله سلطة إصدار العفو أو تخفيف العقوبات القضائية.

ولكن ليس من حق المرشد الأعلى أو القائد أن يختار نائبا، أو يوصي بمن يتولى الموقع في حال عجزه أو وفاته، فهذه مسؤولية مجلس الخبراء، الذي من حقه أيضا عزل القائد عند عجزه عن أداء عمله، أو فقدانه أحد شروط موقعه (المادة 111)، ولهذا المجلس عند وفاة القائد أو عزله المسارعة بتعيين القائد الجديد، وإلى أن يتم ذلك، يتولى مجلس مؤلف من رئيس الجمهورية، ورئيس السلطة القضائية، وأحد فقهاء مجلس صيانة الدستور جميع مسؤوليات القيادة بشكل مؤقت (المادة 112)، كما يتولى المجلس مسؤوليات القائد في حال مرضه، أو وجود أي مانع مؤقت لديه.

مجلسان مؤثران

ضمن النظام السياسي الإيراني المعقد مجلسان مهمان أيضا أولهما مجلس صيانة الدستور المنوط به ضمان الأحكام الإسلامية والدستور، والتأكد من تطابق قرارات مجلس الشورى مع الإسلام، والإشراف على انتخابات مجلس خبراء القيادة، ورئيس الجمهورية، ومجلس الشورى، وعلى الاستفتاء العام، وكثيرا ما يرفض مرشحين لتلك المجالس دون أن يكون لهم حق الاعتراض.

أما المجلس الثاني فهو مجلس تشخيص مصلحة النظام، وهو يضم أعضاء دائمين وغير دائمين يعينهم المرشد الأعلى، ويجتمع بأمر من المرشد (القائد) لحسم الخلافات التي قد تنشأ بين البرلمان (مجلس الشورى) ومجلس صيانة الدستور حول بعض القوانين، كما يجتمع لدراسة أي قضية تحال إليه من القائد ولتولي أي مسؤولية أخرى مذكورة في الدستور.

هو إذن نظام معقد، ولا يمكن تطبيقه خارج إيران، لكنه يحمي نفسه من الهزات كما اتضح من الأزمة الحالية، ويوزع صلاحياته على عدة مراكز، ويسمح بانتخابات تنافسية وتداول للسلطة التنفيذية والتشريعية داخله، وإن كان المرشد هو السلطة العليا فوق الجميع.

المصدر : الجزيرة مباشر