حين يشكو الجلاد من ضحيته

نتنياهو (رويترز)

 

(1) على طريقة ريا وسكينة

ألهمت قصة أشهر سفاحتين عرفتهما مصر وهما الأختان ريا وسكينة، كُتّاب الدراما، وتم إنتاج أعمال فنية عدة تستوحي قصة حياتهما، وأشهرها “الفيلم” السينمائي الذي أنتج عام 1952 من بطولة عدد من أشهر نجوم السينما المصرية حينذاك، وفي مقدمتهم: أنور وجدي وفريد شوقي وشكري سرحان وزوزو حمدي الحكيم ونجمة إبراهيم، والأخيرتان جسّدتا الأختين ريا وسكينة.

الأختان شكلتا عصابة في عشرينيات القرن الماضي لاستدراج النساء من الأسواق الشعبية في الإسكندرية وخنقهن، لسرقة مصوغاتهن الذهبية.

في “الفيلم” مشهد ما زال المصريون يتداولونه لدلالته العميقة، وتظهر فيه “ريا” بعد أن خنقت إحدى السيدات ورجال عصابتها يحملون الجثة لدفنها في قبو المنزل، وتتحدث فيه ببساطة وتلقائية موجهة حديثها للرجال قائلة: “قطيعة محدش بياكلها بالساهل، الولية وأنا بخنقها عضتني في أيدي… متقولش عدوتها”.

هذه القاتلة المحترفة، اعتبرت محاولة ضحيتها الفكاك منها والدفاع عن نفسها أمرًا مستهجنًا، فليس هناك عداوة بينهما هي فقط تسلبها حياتها!!، وهو ليس أمر شخصي بل هي مهنتها التي اعتادت عليها، فهي محترفة قتل دون عداوة مسبقة.

يذكرني موقف “ريا” في “الفيلم” بموقف نتنياهو، ورجال حكومته، وهم يتحدثون عن أن قتلهم آلاف الأبرياء في غزة مجرد حوادث عرضية، وليست الهدف الأساس، فالمطلوب هو القضاء على (حماس) الإرهابية!!، وهي الحجة الواهية نفسها التي استخدمتها أمريكا في العراق وأفغانستان، وقبلهما في فيتنام.

وهو منطق رجال العصابات نفسه الذين يعتبرون القتل مجرد مهمة لا تحمل ضغائن شخصية، فيقومون به دون أن يطرف لهم جفن أو يمس قلوبهم المتحجرة شعور بذنب، أو رغبة في التكفير عما اقترفته أيديهم من جرائم.

والملاحظ أن هناك تطابقًا بين رؤية الإدارة الأمريكية وحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، فالرئيس الأمريكي “بايدن” لا يصنف ما يقوم به “نتنياهو” في غزة على أنه جرائم حرب أو إبادة جماعية في حق الفلسطينيين العزل، بل دفاع عن النفس وحفاظ على أمن إسرائيل، وأمريكا ليست معنية بوقف مجزرة غزة، فلقد استخدمت حق “الفيتو” أكثر من مرة، لوقف قرارات أممية تطالب بوقف فوري لإطلاق النار في القطاع المنكوب، كما تركت نتنياهو يدخل رفح رغم التحذيرات المتكررة بأن نتيجة هذه العملية العسكرية كارثية على المدنيين المكدسين هناك، كما أن الرئيس الأمريكي لم يصف رئيس الوزراء الإسرائيلي يومًا بأنه رجل يداه ملطختان بدماء الأبرياء، رغم أنه وصف ينطبق عليه تمامًا، في حين أطلق “جون كيري” المتحدث باسم الأمن القومي للبيت الأبيض هذا الوصف على الرئيس الإيراني الراحل “إبراهيم رئيسي” -رحمه الله-.

أمريكا التي أدمنت الحديث عن حقوق الإنسان وانتقاد نظام الحكم في روسيا والصين وغيرهما من الدول التي تعدّها مستبدة، لأنها غير ملتزمة بحقوق الإنسان، لم تعلّق على تحقيق شبكة “سي أن أن” الإخبارية الأمريكية عن الانتهاكات التي تحدث في سجون إسرائيل السرية في النقب بحق المعتقلين الفلسطينيين الذين يتعرضون لأنواع التعذيب كافة والمهانة، وهو شيء شبيه بما كان يحدث في سجن “أبو غريب”.

إسرائيل تحولت إلى كعب أخيل بالنسبة لأمريكا، فهي نقطة ضعف واضحة تؤثر في صورة أمريكا كقائدة للعالم الحر.

(2) الجنائية الدولية والعدالة العرجاء

المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية “كريم خان” قدّم طلبات إلى المحكمة لاستصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، ووزير دفاعه “يوآف غالانت” بتهم ارتكاب جرائم حرب، وإبادة ضد الإنسانية في غزة، وهو موقف غير مسبوق بالنسبة لإسرائيل التي اعتادت على التنكيل بالشعب الفلسطيني دون الخوف من التعرض لأي مساءلة دولية من قبل المنظمات الأممية، وظنًا مني، أنه كان هناك تخوف من رد فعل أمريكي معارض لهذا القرار، وهو ما دفع المدعي العام لأن يصدر قرارًا مماثلًا بحق ثلاث شخصيات من (حماس)، وهم: يحيى السنوار زعيم (حماس) في غزة، ومحمد  الضيف القائد العام لكتائب القسام الجناح العسكري للحركة، وإسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لـ(حماس)، وهو أمر مخيب لآمال الملايين حول العالم الذين يتابعون ببالغ الأسى ما يحدث في غزة من صنوف الوحشية ضد أهل غزة على يد جيش الاحتلال، وكيف تقاتل (حماس) لآخر رمق للدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في وطن حر يعيشون فيه بكرامة. “كيف يمكن للعدالة أن تساوي بين الجلاد والضحية” كان هذا تعقيب أحد قادة (حماس) على قرار “كريم خان”، أما رد الفعل الإسرائيلي فكان متوقعًا ومتوافقًا مع عقلية الحكومة الإسرائيلية العنصرية المتغطرسة، فلقد وصف مسؤولون في الحكومة القرار بأنه “وصمة عار على مستوى عالمي”، وأنه في حد ذاته “جريمة ذات أبعاد تاريخية”.

إن من يتابع هذا المشهد قد يفقد الأمل، وقد يظن أن الجلاد نجح في مهمته، وإن الضحية آن لها أن تستسلم لجلادها، وإنه ليس من حقها الدفاع عن نفسها أمام جرائمه، لكن المقاومة الفلسطينية الشجاعة في غزة والأراضي المحتلة أثبتت أنها قادرة على أن تذيق الجلاد من الكأس نفسه، وأن الضحية يمكن أن يكون ندًا للجلاد، بل يمكن أن ينتصر عليه بإذن الله.

 

 

 

 

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر