العدل المفقود والجنائية الدولية؟!

المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان (الفرنسية)

كم هو أمر بالغ السوء أن تكون مجرما موغلا في الإجرام، ولكن الأسوأ من ذلك أن تكون شديد التبجح، ولا تستحي من تبرير جرائمك.

“البجاحة” المستفحلة، والوقاحة المفرطة، هي أصدق وصف لردود إسرائيل والولايات المتحدة، وبعض الحلفاء الأوروبيين، على بيان المدعي العام للجنائية الدولية، كريم خان، بشأن السعي لإصدار أوامر اعتقال لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه يوآف غالانت، الذي شمل في نفس الوقت ثلاثة من قادة حماس، هم: السنوار وهنية ومحمد الضيف.

مآخذ على بيان المدعي العام للجنائية الدولية

ورغم ما يؤخذ على قرار المدعي العام للجنائية الدولية من فقدان للعدالة؛ وذلك بسبب مساواة الضحية بالجلاد، ومبالغات ومغالطات في توجيه اتهامات إلى المقاومة، سيأتي تفصيلها، فإن البعض يرى أن طلب إصدار مذكرة اعتقال لنتنياهو وغالانت لارتكابهما جرائم حرب، يعد عملا جريئا، وغير مسبوق بحق قادة الاحتلال الإسرائيلي المدعوم أمريكيا وغربيا، ولكن ماذا يفيد ذلك ما لم تكن هناك قوة تدعم التنفيذ؟!

في الوقت الذي جاء فيه قرار المدعي العام للجنائية الدولية بحق ثلاثة من قادة حماس، تناسى المدعي العام أن حماس حركة مقاومة ضد محتل يمارس أبشع الجرائم بحق الإنسانية، منذ أكثر من سبعين عاما.

وفي المقابل، صدر قرار المدعي العام للجنائية الدولية بحق اثنين فقط من قادة الاحتلال الإسرائيلي، رغم أنه كان يجب استصدار أوامر اعتقال لكافة قادة الاحتلال المشاركين في ارتكاب آلاف الجرائم ضد المدنيين، وتدمير المنشآت والممتلكات.

لقد جاء بيان المدعي العام للجنائية الدولية غير متوازن على الإطلاق فيما يتعلق بالاتهامات بحق قادة حماس، حيث جاء ما نصه: “ونحن نؤكد أن الجرائم ضد الإنسانية المتهم بها كانت جزءًا من هجوم واسع النطاق ومنهجي ضد السكان المدنيين في إسرائيل من قبل حماس والجماعات المسلحة الأخرى وفقًا لسياسات تنظيمية. وبعض هذه الجرائم، في تقديرنا، لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا”؟!

روايات مكذوبة وشهادات مدحوضة

وفي فقرة أخرى من البيان، تمثل سقطة من وجهة نظرنا، يقول المدعي العام للجنائية الدولية: “خلال زيارتي الخاصة لكيبوتز بئيري وكيبوتس كفر عزة، وكذلك لموقع مهرجان موسيقى سوبر نوفا في رعيم، رأيت المشاهد المدمرة لهذه الهجمات والأثر العميق للجرائم غير المعقولة المتهم بها في الطلبات المقدمة اليوم”.

وهنا لا بد من التأكيد على مغالطة فادحة في البيان؛ حيث اعتمد رواية إسرائيلية كاذبة، وشهادات مدحوضة، في بداية طوفان الأقصى، رغم ما ثبت بالأدلة والتحقيقات الإسرائيلية ذاتها، وما خلص إليه تحقيق الشرطة من أن حماس لم تكن على علم بوجود حفل موسيقي، وأن طائرات إسرائيلية هي التي قتلت المحتفلين، وأحدثت الدمار الواسع الذي يتحدث عنه المدعي العام.

وجاء في فقرة تالية من البيان “أن هناك أسبابًا معقولة للاعتقاد بأن الرهائن المأخوذين من إسرائيل قد تم احتجازهم في ظروف غير إنسانية، وأن بعضهم تعرضوا للعنف الجنسي، بما في ذلك الاغتصاب، أثناء احتجازهم في الأسر”.

وهنا يبدو واضحا أن تحقيقات المدعي العام اعتمدت على الروايات الملفقة من جانب الاحتلال الإسرائيلي، التي دحضتها تماما شهادات أسيرات إسرائيليات موثقة بالصوت والصورة، تحدثن عن المعاملة الراقية التي لقينها أثناء فترة احتجازهن لدى المقاومة.

وهذا ما أكدته ألموغ غولدشتاين، التي كانت أسيرة لدى كتائب القسام هي وابنتها (17 عاما) وابناها القاصرين، وأطلق سراحهم في صفقة تبادل.

فقد ذكرت غولدشتاين أن جنود حماس كانوا يحمون الأسرى بأجسادهم، وأن مقاتلي كتائب القسام كانوا يعاملونهن كملكات، ويتجنبن حتى لمسهن، وهذا ما تغاضى عنه تقرير المدعي العام للجنائية الدولية!

إضافة إلى ذلك، فقد نشرت وكالة أسوشيتد برس مؤخرا تقريرا يدحض الادعاءات الإسرائيلية بارتكاب عناصر من حماس “عنفا جنسيا” خلال هجوم طوفان الأقصى على مستوطنات غلاف غزة.

وبينت الوكالة أن إسرائيل تشير إلى العنف الجنسي في هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول لتسليط الضوء على ما تقول إنه وحشية حماس، ولتبرير هدفها من الحرب المتمثل في منع أي تهديد مستقبلي من غزة، كما استخدمت إسرائيل تلك الروايات المفضوحة لتعزيز أجنداتها السياسية.

من ناحية أخرى، فقد أكد المدعي العام للجنائية الدولية الدعوة إلى الإفراج الفوري عن الأسري المحتجزين، ولم يعرج ولو بإشارة عابرة إلى آلاف من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، بينهم نساء وأطفال وشيوخ، يعانون من أشد الانتهاكات!

ردود لافتة

ورغم المآخذ التي بيناها على طلب المدعي العام للجنائية الدولية بشأن اتهام قادة حماس، يرى البعض أن كريم خان وفريقه المكون من ستة خبراء يأملون من توجيه اتهام إلى الجانبين -الجاني والضحية- بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وقف القتال، وإقناع إسرائيل بالتراجع عن الاستمرار في الحرب، لكن الواقع يخيب هذه الآمال، خاصة على الجانب الإسرائيلي.

لقد كانت حكومة نتنياهو على وشك الانهيار، وكان واضحا أن أيام نتنياهو في الحكم أصبحت معدودة، إلا أن إعلان المدعي العام للجنائية الدولية بالسعي لإصدار أوامر اعتقال له ولوزير دفاعه غالانت، قدمت طوق نجاة لنتنياهو وحكومته؛ إذ أدى القرار إلى إعادة الاصطفاف خلف نتنياهو، وهو ما عبرت عنه ردود وتصريحات المعارضين، الذين رفضوا الاتهامات الموجهة إليه، والمساواة بينه وبين قادة حماس في الاتهام.

ورغم أنه لم يصدر قرار من الجنائية الدولية بشأن طلب المدعي العام، كريم خان، إصدار أمر باعتقال نتنياهو وغالانت -لأن الأمر قد يستغرق شهورا- فإن ردود إسرائيل وأمريكا وبعض الحلفاء الأوروبيين، كانت لافتة للغاية، وبلغت مستوى من الهجوم غير مسبوق على الجنائية الدولية، وصل إلى حد تقديم مشروع قانون لفرض عقوبات على قادة المحكمة الدولية وقضاتها، وهو ما يشير بوضوح إلى عبثية المشهد الدولي، وفقدان العدل في ظل الهيمنة الأمريكية.

عندما تُساوى الضحية بالجلاد؛ فإن العدل مفقود والظلم واقع مشهود.

المصدر : الجزيرة مباشر