أمريكا تهدد.. تعتقل.. تقنن من أجل إسرائيل

متظاهر يرتدي زي تمثال الحرية يقف أمام العلم الأمريكي خلال مسيرة احتجاجية بالقرب من السفارة الأمريكية في 29 إبريل 2014 في مانيلا (غيتي)

الغضب البادي على وجه تمثال الحرية الأمريكي المصنوع من العجوة يذكرني بمشهد عتريس الجد في فيلم (شيء من الخوف) للمخرج حسين كمال حينما يكتشف الجد أن حفيده الذي يعده ليصبح زعيم عصابته التي تحكم الدهاشنة ليّن القلب ويداعب الحمام ويرقّ قلبه للطيور والزهور.

هكذا الوضع تحت سماء تمثال الحرية الأمريكي، فقد صنعت الإدارة الأمريكية على مدار عقود طويلة شعبًا لا يرى في أمريكا إلا القوة المسيطرة على العالم، الدولة لا يعنيها أنهار الدم ما دامت غير أمريكية، ليست صهيونية إسرائيلية، لا تعنيها الحرية والديمقراطية إلا بمقدار مصالحها ومصالح الكيان، وجاء “طوفان الأقصى” لتكتشف الإدارة الأمريكية أن هناك بين شعبها وحول العالم من يحمل في قلبه ذرات الإنسانية والمشاعر الطبيعية لبني البشر.

قانون عقوبات (الموت لإسرائيل)

انفجرت مشاعر العالم مع مشاهد الذبح، القتل، الإبادة التي يمارسها الكيان الصهيوني في غزة وفلسطين، شعر العالم بالخزي والعار لمقتل الأطفال، النساء، الصحفيين، الأطباء، غضب العالم شرقه وغربه ولم يثر هذا مشاعر الإدارة الأمريكية، لكي تتوقف عن دعم الكيان الصهيوني بأشكال المساعدات كلها.

لم تتوقف الأسلحة الأمريكية عن التدفق نحو إسرائيل، ولم يتوقف الصوت الأمريكي ومنذ اليوم الأول عن الوقوف بجانب الكيان في الأمم المتحدة، وحتى إعلان بعضهم من إدارته عن صهيونيتهم واعتبار الحرب على مدنية غزة هي حرب دينية.

رغم هذا الغضب الأمريكي كله إلا أنه كان غضبًا خارجيًا استخدمت الإدارة الأمريكية الدبلوماسية حينًا، وعصا العقوبات حينًا آخر، إلا أن انطلقت مظاهرات الطلبة الأمريكيين في جامعات الولايات المختلفة، ومن جامعة واحدة إلى جامعات متعددة في الولايات كافة حتى صار عددها 141 جامعة أمريكية، ثم تدحرجت كرة الثلج لتصل إلى دول أخرى حول العالم.

أكلت الولايات المتحدة الأمريكية تمثال حريتها وشعاراتها في التعامل مع الطلبة الذين اعتصموا في الجامعات، وبدا عنف الأمن الأمريكي قادمًا من بلاد الكبت والاستبداد والديكتاتورية، واعتقل حوالي 2000 طالب من تلك الجامعات.

وشهد العالم ضربًا، وسحل طالبات، وأساتذة جامعات على الهواء كما كنا نشاهد القتل في العراق وأفغانستان والصومال على الهواء، ورغم ذلك لم تتوقف التظاهرات بل اتسعت، لم تتوقف المطالبات بوقف الدعم للكيان الصهيوني، ووقف استثمارات الجامعات مع الشركات الصهيونية في الكيان المزعوم.

لم تقف الإدارة الأمريكية مكتوفة الأيدي أمام طوفان الغضب الشعبي والشبابي الذي يجتاح الجامعات، وينتقل إلى العائلات والأسر التي تدعم أبناءها المعتصمين والمعتقلين، فتم تمرير قانون في “الكونجرس” الأمريكي بمعاقبة كل من يسيء إلى إسرائيل وتحريم سب الكيان.

كان السبب الذي مرر به أعضاء “الكونجرس” الأمريكي كما أعلن تردد عبارة (الموت لإسرائيل) في شعارات الطلبة الأمريكيين، وتم إقرار القانون بأغلبية 320 عضوًا، وكان هذا إقرار بانهيار القيم كلها التي ادعت أمريكا أنها تعيش عليها.

لم تكن مظاهرات الطلبة والشوارع في الولايات الأمريكية وحدها سببًا في كشف الوجه القبيح لتمثال العجوة الأمريكي المعروف بتمثال الحرية، الذي التهمته الإدارة الأمريكية حينما ظهر أول اختبار حقيقي لشعاراتها، فلأول مرة تواجه أمريكا مأزقًا داخليًا بهذا الشكل.

زاد الغضب الأمريكي حينما بدأت بعض الجامعات في سحب استثماراتها من إسرائيل، وامتد هذا إلى المدن، ومنذ يومين قررت مدينة ريتشموند في ولاية كاليفورنيا سحب الاستثمار من الشركات التي تعمل في الكيان الصهيوني لتصبح ثاني المدن في الولاية التي تقدم على هذا العمل بعد مدينة هايوارد.

تهديد المحكمة العدل

ما زال العالم في انتظار الأحكام التي سوف تصدرها محكمة العدل الدولية في القضية التي أقامتها جنوب إفريقيا أمام المحكمة لمحاكمة القادة الصهاينة على جرائم الحرب على غزة، وقد استمعت المحكمة وشاهدت آلاف الوثائق المصورة والورقية التي تؤكد أن قادة الكيان قد ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

بعد الاستماع إلى هيئة الادعاء ممثلة في جنوب إفريقيا وعدد من الدول التي تدخلت وتضامنت معها -كان آخر هذه الدول هذا الأسبوع الذي شهد انضمام تركيا إلى جنوب إفريقيا- وبعد الاستماع إلى دفاع الكيان الصهيوني، أصدرت المحكمة قراراها الأول منذ أشهر عدة التي أوصت فيه بوقف القتل والحرب على غزة، وكذلك فتح المعابر لزيادة المساعدات إلى أهالي غزة من المدنيين، ورغم قلة النتائج من التوصية الأولى إلا أنه من الواضح أن هناك قرارًا يعد من أجل تقديم رئيس وزراء الكيان وقادته إلى المحكمة الدولية الجنائية ومحاكمتهم.

القرار الذي لم يصدر بعد أن أثار الغصب الإسرائيلي أولًا، واتهم نتنياهو العالم بأنه ضد السامية، ووقف مندوب الكيان في الأمم المتحدة ليهدد العالم الذي أصبح عدوانيًا ضد الكيان (بحسب كلامه)، وكان الغضب الصهيوني كبيرًا وظهرت الوجوه القبيحة تهدد العالم كله، وسربت معلومات عن تعرض أعضاء المحكمة الدولية لتهديدات صريحة، وبالأمس أعلن المدعي العام في المحكمة الدولية عن تعرض أعضائها لتهديدات مباشرة.

رغم أن المدعي العام للمحكمة الدولية لم يصرح بمن هدد أعضاءها إلا أن الكثير من الأخبار المتداولة تشير إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لتكتمل ثلاثية الوجه الأمريكي من دعم مطلق للكيان الغاصب في فلسطين، والمشاركة الفعلية لحرب الكيان الصهيوني على غزة، إلى انهيار قيمها التي عاشت عليها قرون عمرها الأربعة في ممارسة العنف والاعتقال ضد أبناء الشعب الأمريكي من الطلبة والأسر، ثم استخدام “الكونجرس” في تقنين عقوبات لكل من يتناول الكيان الصهيوني، ثم التهديدات لأعضاء المحكمة الدولية حتى لا تصدر أحكامًا على قادة الكيان.

هكذا لم يكن “طوفان الأقصى” انتصارًا لقضية فلسطين وغزة فقط، وعودتها قضية للإنسانية والعالم المتحضر، وانتصارًا للمقاومة الفلسطينية، بل إن أكبر انتصارات “طوفان الأقصى” رغم الآلام كلها كشف الوجوه كافة.

غربًا في الدول كلها التي تشدقت بشعارات الحرية والديمقراطية، شرقًا بمن يدعى إخوة سالت مع شمس غزة وصمودها، وكشفت دول عربية تعاونت مع الكيان لحد الخيانة، كشفت رؤساء مدعين، وجامعة لا يبقى منها إلا مبناها (الجامعة العربية).

أما النجاح الأكبر لصمود الشعب الفلسطيني والمقاومة فكان ظهور الوجوه القبيحة للولايات المتحدة الأمريكي، وبقليل من الصبر ربما يكون “طوفان الأقصى” بداية لعالم جديد يشرق من هنا من غزة ليملأ العالم بالعدل والمحبة، فصبرًا أهل غزة.. صبرًا فلسطين فالفجر أوشك على الشروق.

المصدر : الجزيرة مباشر