استهداف “الجزيرة”.. حين يعجز الكيان عن تسويق أوهامه

الشرطة الإسرائيلية تدهم مكتب قناة الجزيرة في الأرض المحتلة وتصادر معداته (الأناضول)

ليست هي المرة الأولى التي تغلق فيها سلطات الاحتلال مكاتب قناة الجزيرة، ولن تكون الأخيرة، فعلتها من قبل في عام 2008 وفي 2017 بالحجة ذاتها، وهي دعم الجزيرة للمقاومة التي تصفها سلطات الاحتلال بـ”الإرهاب”!، وليس الكيان الصهيوني وحده من أغلق الجزيرة، فقد سبقته دول عربية عدة منها مصر والعراق والسودان والجزائر والمغرب والسلطة الفلسطينية إلخ.

في القرار الجديد لسلطات الاحتلال يوم الأحد الماضي، كان واضحًا حجم الضيق الإسرائيلي بالقناة التي دحضت كذب الرواية الإسرائيلية عن “طوفان الأقصى” وما تبعه من اجتياح لغزة منذ اللحظات الأولى، بعد أن طلبت سلطات الاحتلال من المراسلين الأجانب مغادرة القطاع لتتمكن من نشر رواياتها الكاذبة وتسويقها للرأي العام العالمي مثل قتل الأطفال الرضع أو اغتصاب النساء إلخ، كما أن سلطات الاحتلال أصدرت هذا القرار بإغلاق القناة ضمن ترتيباتها لاجتياح رفح وما تخطط له من مجازر فيها، بحيث تجري هذه المجازر بعيدًا عن أعين الكاميرات.

ملاحقات لم تتوقف

العصبية الشديدة في قرار إغلاق الجزيرة ظهرت أيضًا في شمول القرار مصادرة “الأجهزة المستخدَمة في نقل محتوى القناة من معدات التحرير والتوجيه والكاميرات والميكروفونات وخوادم الإنترنت وأجهزة الحواسيب المحمولة إضافة إلى معدات البث اللاسلكي وبعض الهواتف المحمولة، بخلاف سحب تراخيص المراسلين”.

قرار الإغلاق كان تتويجًا لسلسلة من الملاحقات الإسرائيلية للقناة، شملت استهدافًا مباشرًا لمراسليها وقتلهم خلال عملهم الصحفي، منهم شيرين أبو عاقلة وسامر أبو دقة وحمزة الدحدوح، واستهدافًا مباشرًا لوالده الإعلامي وائل الدحدوح الذي فقد عددًا من أفراد أسرته، كما استشهد 22 من عائلة المراسل مؤمن الشرافي، فضلًا عن والد أنس الشريف، وكان ذلك عقابًا للقناة وطاقم مراسليها بسبب مواصلة تغطية الحرب في غزة ونقل الصورة الحقيقية لها.

إعلام مختلف

منذ انطلاقها في عام 1996، كانت الجزيرة ولا تزال إعلامًا مختلفًا عما ألفه العرب شعوبًا وحكامًا، فرحت بها الشعوب لأنها نطقت باسمها ونقلت معاناتها، أما الحكام العرب فقد  ضاقوا بها ذرعًا، وسعوا لوقفها كثيرًا، ولم يقتصر الأمر على الحكام العرب بل إن الحكومة الأمريكية التي انتقد متحدثها الرسمي جون كيربي يوم الاثنين الماضي القرار الإسرائيلي بإغلاق مكاتبها كانت سباقة إلى الانتقام من الجزيرة، إذ اقتحمت مجموعة تابعة لمكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي (FBI) في سبتمبر/أيلول 2001 شركة إنفوكوم في دالاس واستولت على الأجهزة المرتبطة باستضافة موقع “الجزيرة نت”، وفي الوقت نفسه رفضت أكبر شركة برمجيات وأنظمة نشر في العالم عقدًا للشراكة مع “الجزيرة نت” متعللة بتعرضها لضغوط رسمية لا تستطيع تحمُّلها، ولم تطق الإدارة الأمريكية تغطية الجزيرة للاحتلال الأمريكي لأفغانستان  في عام 2001 حيث قصفت مكتب القناة في كابول، واعتقلت مصورها سامي الحاج، وتكرر ذلك خلال غزوها للعراق عام 2003 حيث قصفت مكتب القناة في بغداد فقتلت المراسل طارق أيوب. وقد كشفت صحيفة ديلي ميرور البريطانية في عام 2005 عن وثيقة تفيد بأن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش أطلع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير على خطة (لم تُنفذ) لقصف المقر الرئيسي لقناة الجزيرة في الدوحة وبعض مكاتبها في الخارج.

حملت الجزيرة منذ انطلاقتها شعار “الرأي والرأي الآخر”، وكان ذلك جديدًا على الإعلام العربي الذي اعتاد نقل الرأي الواحد، ومن خلال هذه الفلسفة الجديدة استضافت القناة معلقين إسرائيليين وكان ذلك صادمًا للرأي العام العربي، واضطر الكثير من الضيوف العرب إلى الانسحاب في حضور أي ضيف إسرائيلي، وأصبح المُشاهد العربي مضطرًّا إلى مشاهدة من يعُدهم أعداءه التاريخيين  والاستماع لهم، لكن القناة حافظت على سياستها ودافعت عنها، ولم يشفع لها ذلك عند رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي أغلقها مرتين في دورتَي حكم مختلفتين له.

تغيير الرأي العام

لم تحتمل سلطات الاحتلال تغطيات الجزيرة، وفشلت في ترويج رواياتها الكاذبة عالميًّا، وظهر ذلك في انقلاب الرأي العام العالمي ضدها وخاصة على المستوى الشعبي، الذي كان أحدث تجلياته مظاهرات واعتصامات طلبة الجامعات الأمريكية والأوروبية، الذين نشؤوا وترعرعوا في ظل رواية كاذبة مفادها أن الشعب الإسرائيلي “حَمَل وديع بين ذئاب عربية تتنافس لقتله”، لكنهم اكتشفوا أخيرًا أن هذا الحَمَل هو الذئب الأغبر الذي احتل أرضًا ليست أرضه، وشرّد أهلها، ويريد الآن تشريد من تبقى منهم.

فقدت الجزيرة صحفيين ومصورين في قطاع غزة بخلاف من فقدتهم قبل ذلك في فلسطين ومناطق ساخنة أخرى من العالم، لكنها لم ترضخ لهذا الإجرام الذي استهدف إخراسها، واستحقت بذلك حب الشعوب العربية وغير العربية التي وجدت فيها منبرًا مهنيًّا حقيقيًّا.

وأسهمت الجزيرة بقدر كبير في تطوير وعي المشاهد العربي، والدفاع عن حقوقه وحرياته، وأصبحت هي صوته في العالم، إذ تزاحم شاشاتها كل القنوات العالمية الكبرى في الفنادق و”الكافيهات”، ومحطات المترو والمطارات، بخلاف البيوت والمكاتب بطبيعة الحال، وكثيرًا ما يتردد اسمها في المؤتمرات الصحفية العالمية الكبرى لرؤساء الدول والحكومات تعليقًا على خبر نشرته أو فضيحة كشفتها، فقد أصبحت مصدرًا رئيسًا للأخبار لكبار قادة العالم بل وحتى القنوات العالمية.

وكما اجتازت الجزيرة إغلاقات سابقة، فإنها ستتغلب على الإغلاق الإسرائيلي عبر الآليات القانونية والسياسية، وفي الوقت ذاته لم ولن تتوقف القناة رغم إغلاق مكاتبها عن متابعة التطورات في الأرض المحتلة، كما لم تتوقف من قبل عن متابعة الأحداث في دول أخرى أغلقت مكاتبها، فهي صاحبة خبرة وقدرة على مواجهة تلك المشكلات.

المصدر : الجزيرة مباشر