الاحتلال الأمريكي لبحر غزة وشرق المتوسط

الرئيس الأمريكي جو بايدن (رويترز)

وسط القصف الإسرائيلي المتواصل على غزة، والمطالب الدولية بالوقف الفوري للعدوان، وانشغال المنظمات وشعوب العالم بتداعيات المجاعة التي تفتك بالفلسطينيين، يحاول الرئيس الأمريكي جو بايدن تمرير مشروعه بإنشاء قاعدة عسكرية دائمة في بحر غزة لدعم الاحتلال الإسرائيلي والتمهيد لفصل شمالي القطاع، ولتحقيق أهداف استراتيجية أخرى، تحت شعارات إنسانية ومزاعم عن إدخال المساعدات لتخفيف معاناة النازحين.

تتضمن الخطة الأمريكية التي أعلنها بايدن في خطاب الاتحاد يوم 7 من مارس/آذار 2024 بعد أيام من بدء الولايات المتحدة إسقاط المساعدات جوًّا، إنشاء رصيف عائم على بعد 5 أميال من الشاطئ مثبَّت في قاع البحر، حيث سيجري تفريغ السفن الكبيرة، وجسر عائم بطول 500 متر متصل بالشاطئ، وتقوم السفن الصغيرة بنقل البضائع من الرصيف إلى الجسر، حيث يجري تحميلها على الشاحنات للتوزيع، والهدف المعلن هو إدخال مليوني وجبة إلى غزة يوميًّا.

صاحب فكرة الممر البحري هو بنيامين نتنياهو -حسب صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية- وطرحها على بايدن في شهر أكتوبر/تشرين الأول بعد أسبوعين من طوفان الأقصى، وعندما طرحها نتنياهو كان هدفه هو إلغاء معبر رفح، وإحكام الحصار على قطاع غزة، وأن يتحكم الجيش الإسرائيلي في المساعدات التي تدخل للفلسطينيين عبر تسلُّمها في قبرص، وتفتيشها والإشراف على شحنها في البحر حتى وصولها إلى غزة، وتشكيل إدارة لتوزيعها في القطاع يحميها الاحتلال، واستخدام المجاعة والمساعدات سلاحًا لابتزاز الفلسطينيين وإجبارهم على الاستسلام.

حتى الآن لا تفصح إدارة بايدن عن حقيقة الأنشطة التي يقوم بها الجيش الأمريكي في بحر غزة، غير أن أكثر من ألف جندي أمريكي يعملون على بناء الرصيف في المياه العميقة، وتجهيز الجسر لدفعه إلى الشاطئ. ولأن ما يفعله بايدن قد يتسبب في عاصفة داخلية وخارجية، فهو يزعم أن القوات الأمريكية لن تنزل على الأرض، ويدعي أن القوات تبيت على متن سفينة بريطانية وليس أمريكية، رغم وجود عشرات السفن الأمريكية العسكرية الكبيرة والصغيرة لتنفيذ المشروع!

بسبب الغموض المتعمَّد، أثار الأعضاء الجمهوريون والديمقراطيون في مجلس الشيوخ المخاوف بشأن نقص المعلومات التي يقدمها الجيش، وأكدوا أن نشر الجنود في منطقة الحرب يحتاج إلى توضيحات، خشية استدراج الولايات المتحدة وتوريطها بشكل صريح في معركة غير مستعدة لها، ودعا رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ مارك وارنر ورئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب بن كاردين إلى تقديم إحاطات بشأن المشروع.

وفي جلسة استماع عقدتها لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب، جرى استجواب وزير الدفاع لويد أوستن الذي عجز عن تفسير ما قاله بايدن عن “عدم نزول القوات على الأرض”، واستطاع النائب الجمهوري مات غايتس المؤيد لترمب أن يحرجه، ويجبره على الاعتراف بأن القوات في بحر غزة مسلحة، وفي حال تعرُّضها لهجوم من القطاع فإنها سترد، أي ستدخل الحرب بشكل صريح، فزادت تصريحاته من حجم القلق والاعتراضات، لكن يبدو أن اللوبي الصهيوني تدخّل وتم تجميد الاعتراضات.

الاستعانة بشركة “فوغبو” العسكرية المخابراتية

يريد بايدن الهروب من رقابة الكونغرس وإظهار التحرك العسكري وكأنه غير رسمي، خاصة قبل أشهر من الانتخابات، لذا قرر تنفيذ مهمة الممر البحري بمشاركة البنتاغون مع شركة عسكرية يديرها ضباط سابقون في الجيش الأمريكي والمخابرات، وهي شركة فوغبو (Fog bow) التي يرأسها الضابط المتقاعد من مشاة البحرية سام موندي، الذي قاد سابقًا القوات في الشرق الأوسط، وميك مولروي، وهو ضابط  سابق في وكالة المخابرات المركزية ونائب مساعد وزير الدفاع للشرق الأوسط.

حسب المعلومات المعلنة، فإن قادة شركة فوغبو والأعضاء البارزين بها كانوا يعملون في إسرائيل أثناء خدمتهم العامة، وعلاقاتهم جيدة ووطيدة بالجيش الإسرائيلي، ويُعَد الممر البحري والميناء في غزة هو المشروع الأول للشركة، وسيُستخدم المتعاقدون والمرتزقة بجانب الجنود الأمريكيين، وستتولى وزارة الدفاع الأمريكية والجيش الإسرائيلي المسؤولية عن تأمين المنطقة البحرية من قبرص حتى غزة.

ومن غير الواضح من سيتولى مهمة نقل المساعدات من الجسر على الشاطئ حتى توزيعها على الفلسطينيين في 3 مراحل يشرف عليها الجيش الإسرائيلي، فهناك تقارير تشير إلى أن شركة فوغبو سيكون لها دور من خلال توظيف شركات المرتزقة من الباطن كما حدث في العراق، وتتحدث تقارير أخرى عن نزول قوات بريطانية على الأرض فيما أُطلق عليه “الأحذية المبللة”، ولكن هناك اعتراضات أثيرت داخل البرلمان البريطاني ورفض أي مشاركة على أرض غزة، ووصفها أحد الأعضاء بأنها فكرة مجنونة، وهناك من يدعم عودة “المطبخ العالمي” مرة أخرى بعد فترة توقف، بعد قتل 7 من موظفيه في الأول من إبريل/نيسان الماضي، لكن يبدو أن الجيش الإسرائيلي له تحفظات على منظمة المطبخ.

دعم الاحتلال الإسرائيلي لممر “نتساريم”

تفاوضت إدارة بايدن مع برنامج الأغذية العالمي ليقوم بمهمة تسلُّم المساعدات من الإسرائيليين الذين سيسيطرون على الجسر الذي يقع على الشاطئ بالقرب من ممر “نتساريم”، بعد تفتيش المساعدات مرة أخرى ونقلها إلى مراكز توزيع رئيسية يقيمها الاحتلال داخل الممر المحتل، ولكن هناك اعتراضات من منظمات الأمم المتحدة ورفض استبعاد الأونروا، وهناك اشتراطات وربط التعاون في تشغيل الطريق البحري بفتح المعابر البرية.

يرفض عمال الإغاثة وموظفو الأمم المتحدة الخطة الأمريكية التي يترتب عليها تغيير نظام قانوني قائم على رأسه الأونروا إلى نظام آخر غير واضح المعالم يتحكم فيه الجيش الإسرائيلي، كما أن الممر البحري لا يغني عن المنافذ البرية وخاصة معبر رفح، واتهموا خطة بايدن بأنها تساعد الإسرائيليين على استمرار الحرب وليس وقفها وبقاء الاحتلال لغزة وليس رحيله.

بعض موظفي الإغاثة اتهموا الأمريكيين بالضلوع في خطة غزو رفح، باستخدام الرصيف عند الاجتياح لإدخال المساعدات وامتصاص الغضب العالمي، لأن دخول الإسرائيليين سيتبعه بالضرورة إغلاق معبرَي رفح وكرم أبو سالم، وأشار المعترضون إلى أن الحديث عن توفير مليوني وجبة يوميًّا يؤكد أن الخطة الأمريكية تتجنب وقف الحرب وانسحاب الاحتلال والعودة إلى الحياة الطبيعية، وتحوُّل القطاع إلى سجن دائم للفلسطينيين.

وفي إطار رفض المشروع البحري الأمريكي، أصدرت 25 منظمة دولية غير حكومية -منها منظمة العفو الدولية- بيانًا، أشارت فيه إلى أن الممر البحري يضفي الشرعية على الاحتلال العسكري البري الإسرائيلي المطول للقطاع، من خلال استغلال الحاجة إلى إيصال المساعدات، ودعت الحكومات إلى منع ذلك، وإعطاء الأولوية لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات عبر الطرق البرية.

السيطرة العسكرية على المثلث البحري: قبرص ـ غزة ـ كريت

الوجود الأمريكي في بحر غزة يعني عسكرة شرق المتوسط وإعطاء الجيش الإسرائيلي مبررات لتوسيع عملياته، والتغول -في حماية الجيش الأمريكي- على حقوق الدول الأخرى المتشاطئة،  وستتسع منطقة العمليات لتشمل كامل المثلث الممتد من قبرص وغزة حتى جزيرة كريت أمام ليبيا، حيث القاعدة الأمريكية التي ترسو بها سفن الأسطول الأمريكي التي تحمل المعدات اللازمة لإنشاء الرصيف وصيانته، وفرق الحماية ودوريات الحراسة.

وكما هو معلن، فإن عملية تفتيش المساعدات لن تقتصر على ميناء لارنكا في قبرص، وشاطئ غزة حيث يسيطر الإسرائيليون، وإنما ستشمل الممر الملاحي من قبرص حتى غزة لضمان عدم اقتراب سفن أخرى من سفن الشحن التي جرى تفتيشها، وستكون مزاعم الخوف من اقتراب مهربي الأسلحة من المساعدات مبررًا لتفتيش السفن في شرق المتوسط، وفرض واقع احتلالي جديد يهدد دول المنطقة.

الانتشار العسكري الأمريكي في بحر غزة وشرق المتوسط وجود غير قانوني، وليس له أي مشروعية، ويُعَد خروجًا على النظام الدولي، وهو احتلال صريح مزدوج، يعطي الأمريكيين والإسرائيليين سلطة السيطرة على المياه الدولية بما فيها من ثروات، وفرض ما يرون من مشروعات بالقوة المسلحة، دون مراعاة أي اعتبار للدول المطلة على البحر، خاصة مصر وتركيا.

المصدر : الجزيرة مباشر