“الجزيرة” ونتنياهو و”مراسلون بلا قيم”

جانب من اجتماع للحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو (رويترز)
جانب من اجتماع للحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو (رويترز)

كان طبيعيًّا أن تتخذ دولة الاحتلال الإسرائيلي قرارًا بإغلاق مكاتب قناة الجزيرة التي تعمل في الكيان الصهيوني الذي نشأ عام 1948 على أرض فلسطين التاريخية، تطبيقًا لقانون أصدره برلمان الدولة العبرية يتيح للسلطات منع أي وسيلة إعلامية أجنبية من العمل في إسرائيل إذا رأت الأجهزة المعنية أنها تضر بالأمن القومي.

وقد صدر التشريع الذي يعد ضربة لحرية الصحافة التي طالما تشدقت بها إسرائيل في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إذ تبناه نواب اليمين المتطرف وشرعوا في تمريره بعد أيام من العدوان الوحشي الذي شنه جيش الاحتلال الإسرائيلي على غزة في الشهر نفسه انتقامًا لاقتحام فصائل المقاومة الفلسطينية السياج الحدودي بين قطاع غزة والكيان الصهيوني ومهاجمة ثكنات جيش الاحتلال وعدد من مستعمرات “غلاف غزة” في عملية نوعية مفاجئة لكسر الحصار عُرفت بـ”طوفان الأقصى”.

“تجربة الترزية”

القانون الذي تمت مناقشته وتمريره على عجل كان مقصودًا به تمكين الأجهزة الأمنية من تقييد وسائل الإعلام في زمن الحرب بعد إعلان التعبئة العامة واستدعاء قوات الاحتياط عقب “طوفان الأقصى”، لكن التشريع عُرف إعلاميًّا خلال المناقشات السريعة بـ”قانون الجزيرة”، وقد كان واضحًا أنه قانون يستلهم تجارب “ترزية القوانين” في دول “العالم الثالث” حيث تم تفصيله خصيصًا لشبكة الجزيرة بكل منصاتها، إذ لا تبدو لدى سلطات دولة الاحتلال مشكلة مع أي وكالة أنباء عالمية أو قناة فضائية أو منصة إعلامية غير شبكة الجزيرة الإخبارية.

الخبير “نتنياهو”

لا يمكن إنكار المهارة الفائقة والقدرة على الإيهام والتأثير التي يتحدث بها بنيامين نتنياهو رئيس وزراء دولة الاحتلال وهو يخاطب الإعلام الدولي بلغة إنجليزية ذات لكنة أمريكية اكتسبها من عمله سنوات مندوبًا لإسرائيل في الأمم المتحدة، لكنه بارع أيضا على المستوى المحلي حيث يتسم بالقدرة على المناورة والتحايل وتغليب خطابه الشعبوي، واعتماد سردية واحدة، كما أن لديه القدرة على حشد الحجج ضد منتقديه أو من يكشفون تهافت روايته أو كذبها.

ويجمع نتنياهو بين الخبرة الأمنية حيث شارك في عمليات حربية وخدم في الاستخبارات العسكرية، كما أنه حقق نجاحات لافتة حين كان وزيرًا للمالية بين عامي 2005 و2003، إلى جانب كونه رجل أعمال له علاقات واضحة ببارونات المال والأعمال في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا كانت وراء اتهامات ما زالت تلاحقه بالفساد.

القوتان المسيطرتان

في كتابه “الصحافة والإعلام في إسرائيل” الذي ناقش تعددية البنية المؤسساتية وهيمنة الخطاب القومي يعتبر الدكتور أمل جمال أستاذ العلوم السياسية في جامعة تل أبيب أن قضية الإعلام في إسرائيل من القضايا الحساسة التي يهتم بها الإسرائيليون كثيرا، لأنها تمس ديمقراطية الدولة والأمن في آن واحد.

ويعتبر الكاتب أن الإعلام الإسرائيلي تعددي لكنه يبقى أسيرًا لسيطرة قوتين اجتماعيتين أساسيتين، هما نخبة أصحاب رؤوس الأموال، والنخبة السياسية والأمنية التي تسيطر على المؤسسات الرسمية، وهما القوتان القائمتان على سنّ القوانين المتحكمة في الإعلام.

ويبدو واضحا أن سياسيًّا يتسم بالدهاء مثل نتنياهو متوغل وذو نفوذ في القوتين اللتين تسيطران على التشريع في المجتمع الإسرائيلي، وأنه يجمع بين سطوة صاحب رأس المال وسيطرة رجل الأمن.

القناة الفاضحة

لطالما وقفت الجزيرة أمام سردية بنيامين نتنياهو المتقنة ظاهريًّا وتولت كشفه وفضح أكاذيبه التي روجها لتبرير عدوانه على غزة، مثل ادعائه قيام المقاومة الفلسطينية بقطع رؤوس الأطفال الرضع واغتصاب النساء مرورًا باستخدام المستشفيات الفلسطينية من قبل عناصر حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وتهريب الأسلحة للفلسطينيين من مصر، وإغلاق القاهرة لمعبر رفح أمام المساعدات الإنسانية، وقيام الصحفيين بأعمال ضمن أنشطة المقاومة، وغيرها من عشرات الأكاذيب.

وفي دولة تحكمها قوانين عنصرية وادعاء كبير بالديمقراطية ومجتمع مدني يتسم بالحيوية، فإن الجزيرة عبر منصاتها الإنجليزية والعربية أتاحت المجال لإظهار الصوت المعارض للسياسات المتطرفة التي يقودها بتخطيط مدروس نتنياهو الحاصل على شهادتين في الهندسة المعمارية وإدارة الأعمال.

ولم يكن ممكنًا أن تتجاهل وسائل الإعلام الدولي ما تنقله شبكات التواصل الاجتماعي من مآس وجرائم ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية ومن انتهاكات بحق الفلسطينيين داخل “الخط الأخضر” وضد الصحفيين في كل الأماكن، وقد ساهمت التغطيات الموثّقة التي تنقلها الجزيرة منذ بدء العدوان على غزة والتي تناقض روايات نتنياهو، في تسرّب رواية أخرى إلى ساحة الإعلام الدولي تزاحم ما استطاعت إسرائيل تغليبه وفرضه إعلاميًّا؛ مما أدى إلى تغيّر لافت في اتجاهات الرأي العام في المجتمعات الغربية خاصة مع تعمد قصف وتدمير عشرات المقرات الإعلامية واستشهاد أكثر من 140 صحفيًّا بنيران جيش الاحتلال الإسرائيلي، معظمهم ارتقى باستهداف مباشر واغتيال بدم بارد.

وقد كانت مساهمة الجزيرة أكثر وضوحا بسبب التضييق الذي مارسته سلطات الاحتلال الإسرائيلي على وسائل الإعلام العبرية نفسها، والرقابة العسكرية الصارمة على تدفق الأخبار، وكذلك بسبب منع الصحفيين الأجانب من دخول قطاع غزة للقيام بواجبهم في نقل الواقع المخزي لجرائم الاحتلال في القطاع المنكوب.

مفاجآت من باريس

هل كان معقولًا ألا يتأثر سجل حرية الصحافة في الكيان الصهيوني بعد كل ما جرى؟ وهل كان طبيعيًّا ألا يتراجع تصنيف إسرائيل في قائمة الحريات الصحفية، بعدما سالت دماء الصحفيين في فلسطين ولبنان؟

تأتي الإجابة سريعًا من باريس حاضرة الثقافة الغربية وحاضنة حقوق الإنسان حيث أصدرت منظمة “مراسلون بلا حدود” من مقرها في العاصمة الفرنسية تقريرها السنوي في 3 مايو/أيار بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، وكانت المفاجأة الأولى فيه أن إسرائيل احتلت المرتبة الثانية بعد المئة في تصنيف حرية الصحافة، متراجعة بدرجتين عن تصنيف العام الماضي رغم بحور الدم الصحفي ومستنقعات تقييد المهنة التي أوحلت فيها الدولة الغاصبة وقوانين غلق المؤسسات بحجة أنها “تهدد الأمن القومي”.

وإذا كان القانون الدولي يضع مسؤولية حماية المدنيين على دولة الاحتلال فإن تصنيف “مراسلون بلا حدود” تجاهل عن عمد مسؤولية إسرائيل عن شهداء الصحافة الفلسطينية ومسؤوليتها عن مئات الجرائم رغم أن تقارير المنظمة نفسها سجلت عشرات الانتهاكات التي ارتكبتها إسرائيل منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

المفاجأة الثانية أن إسرائيل رغم سجلها الإجرامي تقدمت على كل الدول العربية في سجل حرية الصحافة عدا ثلاث دول هي موريتانيا وجزر القمر وقطر في إشارة إلى أنها واحة للحرية مهما ارتكبت من جرائم ورقابة وتضييق على الإعلام وأنها أفضل من محيطها العربي في كل الأحوال.

أما المفاجأة الثالثة فهي أن الأراضي الفلسطينية جاءت في المرتبة 157 قريبا من نهاية الجدول، ويبدو أن المنظمة المذكورة تُحمّل السلطات في غزة والضفة مسؤولية الانتهاكات التي وقعت بحق الصحافة الفلسطينية رغم كونها ضحية جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل ضد كل ما هو فلسطيني.

غسيل السمعة

وبدلًا من أن تقبع إسرائيل على أقل تقدير في ذيل الترتيب وفقًا لعدد الصحفيين الذين اغتالتهم أو للرقابة العسكرية التي تمارسها أو للقوانين المقيدة التي سنتها أو لمنع الصحفيين الأجانب من دخول غزة أو لإغلاق المؤسسات الإعلامية، وبدلًا من أن تقوم المنظمة بطرد إسرائيل خارج التصنيف أصلًا لتجاوزها كل المعايير وتطالب بمحاكمة قادتها وملاحقتهم فإن المنظمة منحت إسرائيل أوسمة للشرف وصكوكًا للبراءة وغسيلًا للسمعة لا يليق إلا بالمدلِّسين.

ولا يمكن فهم أو تقبل المعايير التي بنت المنظمة الحقوقية عليها هذا التصنيف المعيب، الذي تقدم من خلاله حماية للمجرم وانتهاكًا جديدًا ضد الضحايا، وليس ثمة تفسير سوى أن منظمة “مراسلون بلا حدود” تقف مطأطأة الرأس منكسرة أمام جبروت آلة الإعلام الصهيوني الدولية، وأن لها حدودًا حقيقية لا يمكن تجاوزها مع إسرائيل؛ مما يشي بأن تساؤلًا مريرًا يطل من نوافذ الدم الفلسطيني: هل أصبحت المنظمة الباريسية اسمًا على غير مسمى؟ ومن ثَمّ يليق بها أن تكون “مراسلون بلا قيم”.

المصدر : الجزيرة مباشر