بالقضاء لا بالقدر: خبز المصريين مسرطن

أصدرت المحكمة الإدارية العليا حكما نهائيا، السبت 26 من مايو/أيار، يسمح للحكومة باستيراد قمح، مادة صناعة الخبز، ملوث بفطر الإرغوت، وذلك للمرة الأولى في تاريخ القضاء المصري، وفي تاريخ التشريعات الزراعية منذ بدأت مصر استيراد القمح لأول مرة في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مطلع ستينيات القرن الماضي.

وقضت المحكمة بتجميد حكم محكمة القضاء الاداري الذي من شأنه أن يحظر على الحكومة استيراد هذا النوع من القمح، وذلك بعد قبول الطعن المقدم من رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء ووزارة الزراعة والصحة والتموين على حكمها.

والإرغوت، فطر يصيب نباتات القمح، ويصيب الإنسان الذي يتناول الخبز المصنوع من هذا القمح بالسرطان، والغرغرينا، والفشل الكبدي، ويجهض الحوامل من النساء والحيوانات، ويصيب البشر بالتشنجات، والجلطات الدموية وتساقط الأطراف، والموت بالسرطان بعد فترة من تراكم الفطر فى جسم الإنسان، ولا يتأثر بعمليات غربلة القمح الملوث به، ولا الغسيل، ولا الطحن، ولا حرارة إنضاج الخبز.

إعلان
حيثيات الحكم

قالت المحكمة في حيثيات الحكم غير المسبوق، إن مجلس الوزراء استنهض ولايته المنصوص عليها في المادة “167” من الدستور التي ناطت به توجيه أعمال الوزارات، فقرر العمل بالمقايسة المصرية لعام 2010 والتي تسمح بدخول الأقماح المصابة بفطر الإرغوت بنسبة لا تتعدى 0.05%، والمعمول بها لـ6 سنوات سابقة والموافقة للتشريعات الدولية وتحقيقا للصالح العام، وحسمًا للخلاف العلمي المثار في هذا الأمر، والذي انتهت نيابة الأموال العامة العليا في القضية رقم 233 لسنة 2016 حصر أموال عامة إلى أنه محض خلاف علمي وأن الجهة الإدارية هي المنوط بها حسم هذا الخلاف.

وقالت أيضًا، إن قرار مجلس الوزراء جاء مستندًا إلى تقرير منظمة الفاو بناءً على طلب مصر وبعد دراسات اجرتها ومناقشات مع الجهات التي ارتأت حظر دخول الفطر، انتهت فيه إلى أن المناخ في مصر غير مناسب حيث يحتاج نمو الفطر لدرجة حرارة من صفر حتى 10 درجات مئوية لمدة لا تقل عن 25 يومًا، وهو أمر غير ممكن في مصر، وناقش التقرير حجج رأي معهد بحوث النبات والرد عليها، وخلص إلى أنه لم يتبع الأسلوب العلمي فيما خلص إليه من خطورة المرض.

إعلان

السماح بدخول مصر شحنات قمح ملوثة بفطر الإرغوت سابقة قضائية، لا سيما أن تشريعات الحجر الزراعى رقم 3007 لسنة 2001، والمعدل بالقرار رقم 906 لسنة 2012، يؤكد على “حتمية الخلو المطلق” للقمح من فطر الإرغوت لخطورته على الثروة الزراعية، وذلك خلاف ما تدعية المحكمة العليا في حيثيات حكمها الفريد.

كما أن السماح بدخول قمح الإرغوت، جريمة سياسية غير مسبوقة أيضًا، ولا في عهد المخلوع حسني مبارك، ووزير الزراعة في عهده البائد، يوسف والي، والذي أغرق مصر بكل ألوان المنتجات الزراعية المسرطنة. دليل ذلك أن قضية واحدة من قمح الإرغوت لم تنظر في المحاكم المصرية قط، وقد نفى رئيس الإدارة المركزية للحجر الزراعي الأسبق، الدكتور علي سليمان، للأهرام الحكومي في يناير 2016، بداية اندلاع الأزمة، أن تكون مصر قد دخلها شحنة قمح ملوثة بالإرغوت منذ ترأس إدارة الحجر في العام 2007.

لقد قضت محكمة القضاء الإدارى في 14 من نوفمبر/تشرين الثاني 2017، ببطلان قرار مجلس الوزراء الصادر في 21 من سبتمبر/أيلول 2016 بالسماح بدخول الأقماح المستوردة المصابة بالفطر الإرغوت، وبوقف استيراد القمح الروسى المصاب بفطر الإرغوت، ووقف استلام الشحنات الحالية والمستقبلية.

إعلان

وأثبتت المحكمة نكوص الحكومة عن التزامها الدستوري والقانوني بمنع دخول الإرغوت، وقالت في حيثيات حكمها “إن إصرار الحكومة المصرية على العدول عن قرارها بمنع استيراد القمح المصاب بالإرغوت والسماح باستيراده، رغم ثبوت خطره على صحة الإنسان، يتنافى مع ما أقسمت عليه الحكومة المصرية من احترام الدستور والقانون وتوفير البيئة الصحية المناسبة”

وأكدت المحكمة، أن مجلس الوزراء أصدر قرار السماح باستيراد الإرغوت “دون أن يكون مختصا قانوناً بتقرير ما يسمح بدخوله للبلاد من النباتات والمنتجات الزراعية المصابة بآفات غير موجودة بالبلاد ومنها الإرغوت، ومن ثم يكون ذلك القرار صادراً من غير مختص”.

ومن ثم، لا يكون قرار السماح بالإرغوت من أعمال ولاية المجلس المنصوص عليها في المادة “167” من الدستور التي ناطت به توجيه أعمال الوزارات، كما تدعي المحكمة العليا، بل إن المادة الدستورية تلزم الحكومة بـ “المحافظة على أمن الوطن وحماية حقوق المواطنين ومصالح الدولة” قبل توجيه أعمال الوزارات، وتخصها بإعداد مشروعات القوانين، وليس التشريع والذي هو اختصاص مجلس النواب”.

إعلان
رفض بالإجماع

في أغسطس/آب 2015، رفضت لجنة أعمال الحجر الزراعي، المشكلة من 17 جهة حكومية، ومنها الإدارة المركزية للحجر الزراعى المصري، ووزارات الزراعة، والصحة، والتموين، وهيئة الرقابة على الصادرات والواردات، ومركز البحوث الزراعية، ومعهد بحوث النبات، رفضت “بالإجماع” دخول شحنات حبوب مصابة بفطر الإرغوت إلى البلاد، سيما أن عمليات طحن القمح، وحرارة أفران الخبيز لا تقضي على الفطر مطلقًا، وبالرغم من هذا الرفض المطلق، أصرت الحكومة على دخول الإرغوت مصر.

وبعد هذا وذاك، تدعي المحكمة العليا في حيثيات حكمها أن رفض دخول الإرغوت كان “محض خلاف علمي” وأنه من حق مجلس الوزراء أن يتدخل لحسمه، وأن معهد أمراض النباتات لم يتبع الأسلوب العلمي فيما خلص إليه من خطورة المرض!

إعلان

شكل المحامى العام الأول لنيابة الأموال العليا لجنة علمية من أساتذة جامعة عين شمس المتخصصين في أمراض وميكروبيولوجيا النبات، مطلع 2016 وبداية الأزمة، وذلك للوقوف على مدى تأثير فطر الإرغوت على صحة المواطن والزراعات المصرية.

وأكدت اللجنة، على أن “الإرغوت فطر خطير، بل من أخطر الامراض التى تعانى منه الدول المصدرة للقمح فى أوربا وأمريكا، مع إمكانية تعايش ونمو الفطر فى البيئة المصرية، لا سيما وأنه يتواجد في دول مجاورة مثل السودان، واثيوبيا، والجزائر”

وحذر التقرير من أن “دخول أقماح ملوثة بفطر الإرغوت إلى مصر يعرض محاصيل القمح للخسائر، ويعرض المصريين للإصابة بالتسمم، والغرغرينا، والفشل الكبدي، وإجهاض الحوامل فى السيدات والحيوانات، والتشنجات، والجلطات الدموية وتساقط الأطراف، والموت بالسرطان بعد فترة من تراكم الفطر فى جسم الإنسان”

إعلان

زعم المحكمة بأن الحكومة اختارت العمل بالمواصفات القياسية المصرية رقم 1601 لسنة 2010 فندته اللجنة أيضًا، وسجلت أن المواصفة المصرية تتعلق بالقمح المنتج محليًا والخالي من مرض الإرغوت والمستخدم لصناعة الطحن بغرض الإستهلاك الآدمي، ولا تتعلق بالأقماح المستوردة.

وادعت المحكمة استناد قرار مجلس الوزراء إلى تقرير منظمة الفاو، والذي يسمح بدخول الأقماح المصابة بفطر الإرغوت بنسبة لا تتعدى 0.05%، لكن تقرير اللجنة أكد على أن هذه النسبة ليست ملزمة لمصر، ذلك أن كل دولة من دول العالم تضع لنفسها القوانين المنظمة للحجر الزراعي، لحماية الانتاج الزراعي والثروة الحيوانية، وهي قوانين سيادية لا تتأثر بما هو مشرع في الدول الأخرى، وقوانين حجر بريطانيا تنص على أن يكون القمح “صفر” إرغوت .

وضرب التقرير مثل على ذلك أن السوق الأوربية تمنع دول البطاطس المصرية من دخول السوق الأوربية إذا ما احتوت الشحنة على 5 درنات مصابة بمرض العفن البني، بالرغم من تواجد المرض بدول أوربا، وقد دخل مصر منها، فما بالنا وأن مصر خالية من الإرغوت تمامًا. وفي النهاية رأت اللجنة “المنع المطلق لدخول أية شحنات من القمح المحتوي على الأجسام الحجرية لفطر الإرغوت”.

إعلان

وفي 5 من مايو/أيار 2016، استندت النيابة العامة على تقرير اللجنة العلمية الفنية المشكلة بقرار المحامى العام الأول لنيابة الأموال العليا، وأصدرت قرار يمنع دخول أى نسبة من الإرغوت  فى القمح.

في 22 من أغسطس/آب 2016، أصدر وزير الزراعة، الدكتور عصام فايد، القرار رقم 1421 برفض استيراد أقماح بها أى نسبة من الارجوت، ونص على أن تكون الأقماح “صفر إرغوت” ما يؤكد علم الحكومة بالمخاطر التشريعية والصحية المتعلقة بقرار السماح بدخول قمح ملوث بفطر الإرغوت على صحة المصريين، ولكن هل التزمت الحكومة وطبقت قرارها؟

ضغوط وتواطؤ

تعرضت الحكومة الضعيفة إلى ضغوط ومساومات رخيصة من روسيا، التي تعاني من تخمة في انتاج القمح الموبوء بالإرغوت ، للقبول باستيراد القمح الروسي الملوث بفطريات الإرغوت . لم يشفع لمصر شراؤها 50% من وارداتها من القمح من روسيا، وفرضت روسيا حظرًا على استيراد المنتجات الزراعية المصرية، بحجة تلوثها بمياه الصرف الصحي، ثم رضخت الحكومة المصرية، وقبلت الإرغوت الروسي.

وزار الرئيس الفرنسي السابق الجنرال السيسي، ثم تبعه السفير الفرنسي في القاهرة وزار وزير الزراعة المصري في مكتبه، ورضخت مصر لشراء القمح الفرنسي الملوث بالإرغوت، وبعدها نشرت صحيفة الأهرام الحكومية مقالا بعنوان ” فضيحة كبري: مصر ترضخ لضغوط فرنسا وتقبل استيراد شحنات قمح مصابة بفطر يسبب السرطان”

تلوث القمح والخبز بالإرغوت المسرطن ليس قدرًا مكتوبًا على المصريين، ولا مصيرا محتوما، وقبل أيام من حكم المحكمة العليا، كتب المحامي طارق العوضي، صاحب قضية منع الإرغوت، وعضو لجنة الدفاع عن مصرية جزيرتي تيران وصنافير، تغريدة على تويتر قال فيها “قدمت كل ما أملك من وقت وجهد وعلم في هذه القضية وحصلت على حكم محكمة القضاء الإداري، برفض قمح الإرغوت. حاولت الدفاع عن صحة هذا الشعب ولم أجد أية مساندة في هذه القضية رغم خطورتها، وفي النهاية لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، دعواتكم

وبالرغم من مخاطره القاتلة، قررت الحكومة دخول شحنات القمح الملوثة بفطريات الإرغوت المسرطن ليرد الجنرال السيسي الجميل للدول التي دعمت انقلابه العسكري منتصف 2013، ويأبى الجنرال إلا أن يلوث خبز المصريين، ولكن بحصانة أحكام القضاء، ومن دون اعتبار لصحة المصريين.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه