عصر الشعوب

 

وبينما يتأهب القوم لإعلان انتصار الثورة المضادة إذا بهم يرون انفجار تيار الثورة من جديد، هذه المرة من قلب القاهرة في 29 من سبتمبر/أيلول 2019 وهذا تاريخ له ما بعده، إذ تحول قائدهم المفدى ووحشهم الكاسر في لحظات قليلة إلى نمر من ورق ضاعت منه الكلمات وفقد القدرة على ضبط النفس ولجأ تارة إلى التهديد والوعيد وتارة أخرى إلى استعطاف مؤيديه وتذكيرهم بما قدم لهم يوم الانقلاب المشؤوم.

 في ذاك اليوم المشهود خرجت المظاهرات بكثافة لتكسر هيبة الطاغية وتحطم تمثاله المصنوع الإسمنتي وتعلن وبصراحة رغبتها في إسقاط النظام الذي ظن كبيرهم أنه صلب وثابت ومستقر.

رئيس تونسي جديد
إعلان

لم تكن انتفاضة العشرين من سبتمبر/أيلول بمعزل عن انتفاضات أخرى كان القاسم المشترك بينها جميعا هو لعن السيسي واعتباره عدوا لله وللشعوب، من السودان جنوبا إلى الجزائر وتونس غربا ومن لبنان إلى العراق. وبالطبع كانت ليبيا جاهزة ومجاهرة بعدائها للسيسي الذي أعلن الحرب على شعبها منذ انقلابه على الرئيس محمد مرسي عليه رحمة الله.

لم يكن المنتفضون في الجزائر، ولا في تونس، ولا في العراق، ولا في لبنان في خصومة مع مصر وشعبها، كما أن السيسي لا يحكم بلدانهم ولكنهم أدركوا وبفطرة الثائر الحر أن وجود السيسي على رأس السلطة في مصر هو أكبر عائق أمام تحرر الشعوب أو تطور أوطانهم، والحقيقية أن معهم الحق كله، فالنموذج السيساوي القائم على القمع لم يصب أذاه المصريين فقط بل امتد أذاه المعنوي للبشرية حول العالم.

الحدث الأبرز والذي اعتقد أنه زاد وسوف يزيد من متاعب السيسي هو انتخاب رئيس تونسي جديد لم يكن له أي دور سياسي في السابق ولم يترشح على أجندة أي حزب ولا حركة سياسية لا قديمة ولا حديثة ولكن ما قدمه للناس، إضافة لكونه أستاذا جامعيا وقورا ومتحدثا لبقا، كل ما قدمه هو إعادة إحياة منظومة المقاومة العربية في إطارها السياسي، فهو قد أعلن الحرب على الفساد والاستبداد وأعاد الاعتبار للقضية الفلسطينية التي تم تهميشها منذ انقلاب السيسي وارتفاع نجم محمد بن سلمان في السعودية وهيمنته على مقاليد الأمور رغم عدم توليه السلطة رسميا.

إعلان

هنا أدركت الجماهير التونسية أهمية الربط بين الاحتلال الخارجي والداخلي واستدركت خطأ وقعت فيه حين فصلت بين الهم الداخلي والخارجي، لذا فقد اعادت الاعتبار إلى القضية المركزية وهي قضية الربط بين الاحتلال والاستبداد، بين الفساد والقمع، هذه العودة إلى الربط بين قضايا الشعوب في أقطارها وبين المحتل الصريح كالعدو الصهيوني والعدو الخفي المتمثل في الحكام الخونة وكلاء الاحتلال.

وكما أدرك الشعب التونسي أدرك الشعب العراقي وانتفض في وجه الفساد والتبعية وعبر عن غضبه ورفضه للإحتلال الايراني المتواجد بعمامته تماما كرفضه للاحتلال العسكري الأمريكي المتواجد بقواعده ومستشاريه، ولم ينس العراقيون أن يحشروا السيسي في الصورة لأنه يمثل أكبر عملاء الاحتلال بغض النظر عن مصدره، كما أنه، أي السيسي، أكبر داعم للاحتلال الصهيوني لفلسطين.

ملوك الطوائف
إعلان

وفي لبنان سئم الناس من حكم ملوك الطوائف فخرجوا إلى الميادين غير آبهين بالسلاح الموجود في أيدي قيادات هذه الطوائف ومريديهم وأعلنوا التحدي ورفعوا الشعار الخالد الذي انطلق في 2011 “الشعب يريد إسقاط النظام “، وأيضا لم ينس اللبنانيون إضافة نكهة جديدة لثورتهم عبر ترديد شعارات تندد بالسيسي وتسخر منه وتلعنه وكأن السيسي أصبح رمزا لكل سوء وعلامة لكل قبح سياسي وإنساني.

أما الجزائر التي عرفت الثورة على المحتل عبر صمود أسطوري فإن تجربة العشرية السوداء دفعت الجميع إلى توخي الحذر والبحث عن طريق جديد مع استمرار الضغط الشعبي على المؤسسات الأمنية والعسكرية وعلى الدولة العتيقة التي يبدو لي أنها في طريقها نحو الزوال. وعلينا الانتظار حتى تنتهي الانتخابات المقبلة على خير ولكن الشاهد هم أن الجزائريين مصرون على المضي قدما في طريق التغيير، وبالمناسبة أيضا فقد كان السيسي حاضرا في هتافات الجزائريين منذ أسابيع وحتى اليوم.

لم تنطلق الانتفاضة العربية في نسختها الثانية 2019 من نفس منطلقات الثورة في 2011 ولكنها، وعلى سبيل المثال، كانت أكثر تحديدا في العراق ولبنان حين ركزت على الفساد والطائفية وهما أساس كل استبداد وعنوان كل تخلف وتراجع في التنمية بكافة أشكالها، بينما في 2011 كان الشعار ملخصا لحالة الجوع وغياب الحرية وانتهاك الكرامية الإنسانية. اليوم أدرك الشعبان اللبناني والعراقي أن حكم الطوائف هو أساس الفساد، وأن الجوع مصدره ليس نقص الثروة أو الموارد بل المحاصصة والتبعية وبالتالي فالحاصل في هذين البلدين هو محاولة لإبعاد المحتل الخارجي وأتباعه في الداخل وكلاهما مستفيد من الثروة والسلطة بينما الشعب يعاني وسيظل يعاني.

إعلان
قدرة على المقاومة

لقد تطور وعي الشعوب بشكل مفاجئ وصادم لقادة الثورة المضادة وهذا الوعي المتنامي تولد عنه طاقة وقدرة على المقاومة رغم مرور أكثر من ست سنوات على الانقلاب الأسوأ في تاريخ المنطقة 3 من يوليو/تموز 2013 ، وكما تطور الوعي تطورت طريقة التفكير وبالتالي تطورت الأدوات على قلتها ولكنها انتجت الكثير سواء عبر الردع المسلح كما في ليبيا إذ واجه الشعب الليبي وببسالة قوة عدوان عربي غربي ممول من الخليج ومدعوم من فرنسا وأمريكا وبإسناد ودعم عسكري مباشر من السيسي عدو الشعوب العربية بلا استثناء ، كما واجه التونسيون الدولة العتيقة وحوارييها ومن أرادوا إعادة إحيائها باختيار رجل لا تدعمه سلطة ولا تسانده جماعة وليس له حزب ولا قبيلة سياسية أو حتى اجتماعية أو اقتصادية، بل إن قيس سعيد واجه كل الأحزاب وكل الحركات والتيارات وربما بعض الدول التي قد تكون قدمت الدعم لمنافسه المشتبه به في قضايا فساد.

نجح قيس سعيد في الفوز برئاسة تونس في درس جديد وعملية إحياء جديدة للثورة العربية، أو ما يمكنني تسميته بالنسخة الجديدة للثورة العربية والتي وبكل تأكيد ستطور من أدواتها وطريقة تفاعلها مع المستجدات وخصوصا بعد ما نشهده من بداية انهيار لحلف الثورة المضادة. 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه