الشماتة عرَض.. لكن المرض أعظم!

علي وأحمد الحجار

 

موجة الشماتة التي ضجت بها مواقع التواصل الاجتماعي عقب وفاة بعض رموز النخبة المصرية التي شاركت من قبل في التحريض على قتل المصريين والرقص على أشلائهم هي محض عرَض، لكن المرض الأصلي هو الأعظم.. إنه الانقسام والتمزق المجتمعي.

حين غنّى المطرب علي الحجار “إحنا شعب وانتو شعب” -التي لحنها شقيقه أحمد الحجار الذي توفي مؤخرا وشملته موجة الشماتة- عقب مجزرة فض اعتصام رابعة، كانت أغنيته تلك تأسيسا لحالة انقسام رأسي جديدة بين المصريين، لينقسموا إلى شعبين مختلفين بدلا من كونهم شعبا واحدا عبر العصور.

إعلان

الشعب المصري يغلب عليه طابع التماسك تاريخيا، إذ إن كتلته العظمى تتحدث بلسان واحد ولها دين واحد، مع وجود أقلية مسيحية وبعض المجموعات العرقية الأخرى المتناغمة أيضا مع محيطها العام والرافضة للقفز عليه، لكن إطلاق جمهورية 3 يوليو 2013 بصناعة هذا الشرخ الذي ما إن يكاد يندمل حتى يُفتح مجددا في مناسبات طبيعية أو مصطنعة، هو الداء العضال الذي يدمر الجسد المصري حاليا.

تقسيم المجتمع والتلاعب بهذا التقسيم هو سمة الأنظمة الاستبدادية عبر التاريخ، فهذا فرعون الأب الروحي للاستبداد يحكي عنه القرآن {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (القصص: 4). وهو ما تكرر عبر العصور وصولا إلى اللحظة الراهنة في مصر التي أعقبت الانقلاب على ثورة 25 يناير التي نعيش أجواء ذكراها، فالانقسام ضرب كل العائلات المصرية تقريبا، وفي كل المدن والقرى، وأصبح لكل فريق وسائل المعرفة الخاصة به التي تباعد بينه وبين الفريق الآخر، وبلغ الأمر -في ذروة المكارثية السياسية- أن طلّق بعض المصريين زوجاتهم، أو خاصم الأخ شقيقه، أو خاصم الابن أباه بسبب اختلاف الرؤى السياسية بينهم، ووصل الأمر إلى المطالبة بالفعل بضرب اعتصام رابعة بالطائرات أو رش غاز سام عليه للقضاء على كل من فيه، واستمرت هذه الروح بعد ذلك.

الجريمة العظمى

إعلان

الانقسام المجتمعي المستمر منذ 2013 حتى الآن هو أخطر مصيبة تواجه الشعب المصري في تاريخه الحديث، إذ ليس متوقعا من شعب منقسم أن يشهد أمنا ولا استقرارا ولا تنمية، ولا مودة. هذا الانقسام يخصم كثيرا من وزن مصر وقوتها إقليميا ودوليا، ويجعلها أداة طيّعة في يد القوى الإقليمية والدولية، فكل طرف يبحث عمّن يحميه في مواجهة إخوته المصريين من الفريق الآخر.

أتفهم جيدا آلام المجروحين، ونحن منهم.

أتفهم مواقف أسر الضحايا والشهداء ومشاعرهم.

إعلان

وأقول صادقا إن كل الدم المصري حرام، وإن ما وقع من دم خلال الفترة الماضية إنما هو قتال فتنة، وحين ضحى أنصار الشرعية بأنفسهم وأموالهم وأولادهم لم يكن ذلك على سبيل الاستعراض، لكنه كان اجتهادا في الدفاع عن حق اعتقدوه، وشرعية صنعها الشعب المصري بعد ثورة مات فيها شهداء أيضا، ووقف الملايين في الشوارع ساعات طويلة في طوابير الانتخابات ليعبّروا فيها عن إرادتهم بكل حرية للمرة الأولى في تاريخهم الحديث، وليفاخروا بذلك باقي الأمم المتقدمة، فلما انتهكت تلك الإرادة هبّوا للذود عنها. وفي المقابل هناك على الطرف الآخر من كان يحمل رؤية مغايرة عن الاستقرار والأمن، وإن اختلفنا معه، ولم تكن له منفعة ذاتية في ذلك، فهذا أيضا له الحق في وجهة نظره، والدفاع عنها بطريقة سلمية بعيدا عن التحريض والقتل، أما من زرع الفرقة بين المصريين ليقتات عليها، ويقفز بها على فريق مستخدما فريقا ثم يعود ليتخلص من هذا الفريق الثاني، لتخلو له الساحة، فهذا هو مرتكب الجريمة العظمى بحق مصر والمصريين.

في كتب التاريخ

يفخر مناهضو الانقلاب بما قدّموه من تضحيات بأنفسهم وأموالهم وأعمالهم دفاعا عن الشعب المصري وإرادته وثورته، وسيُسجّل لهم ذلك بأحرف من نور في كتب التاريخ، لكن ماذا لو عاد بنا الزمن بعد كل ما رأيناه، وكل ما مر بنا خلال السنوات الثماني الماضية، هل كنا لنختار المسار ذاته؟ الإجابة عندي شخصيا بالنفي -ولكل حق الاجتهاد- فالأمر لم يكن يستحق كل تلك المعارك والدماء والدمار، وكان حريّا بدعاة التغيير (وخاصة الإخوان وحلفاءهم) أن يكونوا أكثر التصاقا بالشعب، وأكثر فهما لمزاجه العام، وأكثر حرصا على وحدته وتماسكه، حيث لا يستطيع حاكم مهما بلغت قوته الانتصار على شعب موحد، كما لا يستطيع شعب ممزق أن يحقق حلم التغيير والإصلاح، لأن ما يراه البعض إصلاحا سيراه الآخرون إفسادا أو سيُصوَّر لهم هكذا.

قد يقول بعض الناس، ولكنّ تجارب التاريخ تشهد دوما بتحرك طليعة من الشعب -وليس كل الشعب- للإصلاح، وهذه حقيقة، لكن هذه الطليعة (وهو مصطلح متفق عليه بين اليسار واليمين) تحتاج إلى حاضنة شعبية ممثلة لأغلبية الشعب وليس بالضرورة كله. وهذا ما شهدناه في ثورة 1919 حيث تحركت مجموعات صغيرة لجمع التوكيلات للوفد المصري، كما شاركت أجزاء من الشعب في العصيان المدني، لكن ذلك كله كان يتم في ظل حاضنة شعبية واسعة. وحتى حركة يوليو 1952 لم تتمكن إلا لوجود حاضنة شعبية تفاعلت مع توجهاتها وسياساتها الاجتماعية والاقتصادية. وتكرر هذا في ثورة يناير، فرغم أن من تحركوا يومَي 25 و28 يناير أو من اعتصموا في ميدان التحرير وغيره من الميادين كانوا نسبة قليلة من الشعب، فإن الجموع الكبيرة كانت حاضنة لهم، داعية لهم بالتوفيق، مقدّمة ما تستطيع من دعم، ولا يقلل من هذا ظهور بعض المنتفعين من النظام السابق أو الخائفين على مصالحهم وأمنهم، فهذا أمر طبيعي.

المعركة الكبرى الآن أمام قوى الإصلاح والتغيير في مصر، سواء داخل الوطن أو خارجه، هي -بالإضافة إلى مواجهة الاستبداد- معالجة هذا الانقسام والتمزق المجتمعي، واستعادة لُحمة الشعب، ليتمكن مجتمِعا من مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تواجهه، في إطار حوار وطني جامع يستهدف الإنقاذ العام وليس الانتصار الشخصي لهذا الفريق أو ذاك.

المصدر : الجزيرة مباشر