لماذا أصبحت الانتخابات التركية الحدث الأهم عالميا؟

على الرغم من التاريخ الممتد للدولة التركية، منذ الخلافة العثمانية وما قبلها وبعدها، وعلى الرغم من التاريخ الحافل أيضا للانتخابات التركية رئاسيا وبرلمانيا، وما شابها من أحداث عظام، حيث المؤامرات تارة والانقلابات تارة أخرى، وعلى الرغم من أهمية الجغرافيا التركية طوال الوقت، فإن انتخابات 2023 سوف تظل علامة بارزة في التاريخ التركي، ليس فقط، بل والعالمي أيضا، بعد أن سجلت اهتماما غير مسبوق دوليا على جميع الأصعدة، سياسيا واقتصاديا وعسكريا وعقائديا، نظرا لما سوف يترتب على نتائج هذه الانتخابات من متغيرات، ليس في الداخل التركي أو المحيط الإقليمي فقط، وإنما في مجريات الأحداث في العالم أجمع.

بكل وضوح يمكن أن يسجل المراقبون اهتماما بالانتخابات التركية في بعض العواصم الأوربية تحديدا، ربما يفوق الانتخابات الداخلية في بعض هذه البلدان، من اليونان وألمانيا وفرنسا خصوصا، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا ودول الاتحاد السوفيتي السابق بشكل عام، ناهيك عن منطقة الشرق الأوسط والصين وإيران وغيرها.

وربما تبدو الدول العربية أقل اهتماما إعلاميا بهذا الحدث المثير، رغم أهميته بالنسبة لها من كل الوجوه في الحاضر والمستقبل، وقد يكون السبب في ذلك هو أن الانتخابات في حد ذاتها بالنسبة للعرب ليس أمرا ذا شجون، بل إن العملية الديمقراطية برمتها ما زالت في مراحل النمو، إن لم تكن في مراحل الريبة والتردد، إلا أن الشارع العربي بدا أنه يتابع مجريات هذا الحدث بشغف بالغ، بمنأى عن مدى الاهتمام الرسمي من عدمه، إدراكا من رجل الشارع بأهمية ما ستسفر عنه النتائج، وأثر ذلك في الأنظمة السياسية بالمنطقة.

ما الذي تغيّر في تركيا؟

لذا ستطرح الأسئلة نفسها طوال الوقت: ما الذي تغيّر في تركيا حتى تصبح الانتخابات هناك الخبر الأول في نشرات الأخبار وعناوين الصحف في العديد من دول العالم؟ هل هي تركيا في حد ذاتها ومحورية السياسة التركية خلال العقد الأخير، أم حزب العدالة والتنمية ذو التوجهات الإسلامية، أم صعود وهبوط التيار الإسلامي في المنطقة عموما، أم هو شخص الرئيس رجب طيب أردوغان، أم كل هذه العوامل مجتمعة؟

أعتقد -وبما لا يدع مجالا للشك- أن شخصية الرئيس أردوغان خلال السنوات الأخيرة، وطموحه نحو تحقيق أهداف كبيرة فاقت التوقعات داخليا وخارجيا، قد تصدرت كل هذه العوامل السابقة الإشارة إليها، ما يعني أن بعض عواصم الغرب يمكن أن تقبل بفوز حزب العدالة والتنمية، على ألا يكون الفائز هو شخص أردوغان، الذي أصبح يمثل تحديا كبيرا لسياسات استعمارية أوربية، كتمت على أنفاس الدول النامية واستغلت ثرواتها أكثر من قرن من الزمان.

على الصعيد الخارجي، أصبحت تركيا في عهد أردوغان حاضرة بقوة في كل الأحداث الدولية تقريبا، من روسيا وأوكرانيا، أذربيجان وأرمينيا، إيران والولايات المتحدة، فلسطين ودولة الاحتلال، سوريا ولبنان واليمن والعراق والسودان وليبيا، أزمة الغاز في أوربا، مشكلة المهاجرين غير الشرعيين هناك، قضية اللاجئين من عدد من الدول بينها أفغانستان وسوريا والعراق واليمن، وقضية مسلمي الروهينغيا في ميانمار، ومسلمي الإيغور في الصين، كما دخلت تركيا الأسواق الأفريقية من أوسع الأبواب، ووضعت أقدامها بقوة في موانئ عديدة هناك.

أما على الصعيد الداخلي، فحدّث ولا حرج عن صناعات عسكرية متطورة تنافس القوى الكبرى، وتكنولوجيا متقدمة تنمو بمعدلات غير مسبوقة، وصادرات متنوعة بلغت قيمتها في عام 2022 نحو 254 مليار دولار، بعد أن تضاعفت 7 مرات خلال السنوات العشرين الأخيرة، وسط مساعٍ لمضاعفة هذا الرقم خلال الأعوام الخمسة المقبلة، وغير ذلك من المشروعات الصناعية والزراعية الكبرى التي شهدتها تركيا خلال فترة حكم أردوغان، بخلاف مشروعات البنية التحتية الكبرى والمرافق، وهو ما جعل تركيا من دول الصف الأول سياحيا.

بؤرة اهتمام العالم

هذه العوامل كلها جعلت تركيا بشكل عام بؤرة اهتمام العالم، وجعلت الانتخابات التركية الحدث الأبرز، ولم تستطع وسائل الإعلام الغربية أن تخفي حنقها على هذه الشخصية المحورية، كما لم يستطع بعض ساسة أوربا إخفاء قلقهم من ذلك القادم من أطلال الخلافة الإسلامية، كما يحلو لهم تسميته خليفة المسلمين، في الوقت الذي تُصدر فيه بعض مراكز الدراسات هناك بين الحين والآخر استطلاعات رأي مشكوكا في نزاهتها بشأن الانتخابات وصدارة المعارضة في الشارع، وغير ذلك من الممارسات التي تؤكد القلق من استمرار أردوغان على رأس سلطة دأبت على استقرار قرارها السياسي، ونموها الاقتصادي، وتطورها العسكري.

الشاهد في الأمر، أن رأس السلطة في أي موقع، وفي أي وطن، يمكن أن يكون سببا في النهوض والتطور، ويمكن أيضا أن يكون سببا في السقوط والتردي، من حقه أن يشيد بدعم وإخلاص مساعديه في الأولى، وليس من حقه أن يلقي باللائمة على معاونيه في الثانية، ذلك أن لديه طوال الوقت حرية الحركة وحرية القرار لاختيار مستشاريه ووزرائه والخبراء من كل حدب وصوب، دون الاستئثار بالسلطة، ودون الاعتقاد بوحي يوجهه، أو أنه بكل شئ عليم.

بالتأكيد نحن أمام تجربة مثيرة، جديرة بالدراسة والاهتمام، يسطر الشعب التركي أهم فصولها الآن، وسط عالم يموج بالكثير من الأحداث الدامية، والمتغيرات الواسعة النطاق، إلا أنها استحقت أن تفرض نفسها على الجميع من الشرق والغرب، والشمال والجنوب.

المصدر : الجزيرة مباشر