مزبلة التاريخ شاهد عيان

الكاتب الروائي المصري يوسف زيدان - صفحته على فيسبوك
يوسف زيدان زعيم التكوينيين

قد تكون حرية التعبير منعدمة في بعض بلدان العالم العربي، بشهادة الأمر الواقع والمنظمات الدولية في آن واحد، إلا أن الأمر حينما يتعلق بالخوض في الدين ممن لا يفقهون، وضرب الثوابت الشرعية من مرتزقة مشهود لهم، يصبح الباب مفتوحًا على مصراعيه، بدواعي الحرية والديمقراطية والرأي الآخر، وهو ما يشير إلى أن الافتراء على العقيدة، توجه رسمي، خصوصًا عندما تُفتح القاعات الرسمية لهؤلاء، وتُسخّر البرامج التلفزيونية لأولئك، ولا يُسألون عما يرتزقون من جهات مشبوهة بالداخل والخارج على السواء.

الشارع المصري، على سبيل المثال، يعيش هذه الأيام، حالة من الجدل والسخط، مع الإعلان عن انطلاق ما يسمى مؤسسة “تكوين” من خلال أشخاص من مصر ومن خارجها، عُرف عنهم الإلحاد تارة، وإنكار السنة النبوية تارة أخرى، وتارة ثالثة الافتراء على الرسل والصحابة، بل والقرآن الكريم تحديدًا من بين الكتب المقدسة، وهو الأمر الذي أثار أزمة رأي عام، بمجرد نشر أسماء المشاركين في الحدث، كمجلس أمناء، لا تقل عن الأزمة التي صاحبت الإطلاق المريب لما يعرف باتحاد القبائل العربية.

في هذا الصدد، تجدر الإشارة، إلى أن ما يجري في البلدان العربية، من تجاهل تام لإرادة الشعوب حين اتخاذ قرارات مصيرية، قد نراه واقعًا في بلدان الغرب في هذه الآونة بشكل خاص، حينما يتعلق الأمر بالموقف من حرب الإبادة في قطاع غزة، ذلك أن الشعوب هناك تستنكر وتحتج طوال الوقت على مواقف حكوماتها المنحازة للكيان الصهيوني، إلا أن ذلك لم يغير مواقف هذه الحكومات، التي اعتادت على مدى سبعة عقود سياسة النفاق والكيل بمكيالين، إلى أن أصبحت الأوضاع على حافة الهاوية على أرض الواقع.

وقد يتصور البعض أن سياسات التجاهل واحدة في العالمين، العربي والغربي، إلا أنه بقليل من التمعن، سوف نكتشف أن الفارق كبير، ذلك أن الغرب قد يتجاهل إرادة المواطن عندما يتعلق الأمر بسياسات خارجية، أو مصالح استعمارية، إلا أن أصحاب القرار في عالمنا العربي يتجاهلون الرأي العام في أدق خصوصياته الداخلية، بل فيما يتعلق بأمنه الشخصي وأمن وطنه القومي، فلا تصدر حتى بيانات توضيحية للهدف من هذا القرار أو ذاك، وذلك في اعتياد صارخ على الصمت، بالتزامن مع حملة إلهاء إعلامية ممنهجة.

الغريب أن يتم إطلاق مثل هذه الكيانات من قاعات رسمية، كما حدث مع تلك المؤسسة المشبوهة، التي انطلقت من داخل المتحف المصري الكبير، على الرغم من عدم وضوح الرؤية حول التمويل، وميزانية حملة الإعلانات الضخمة بالدراهم والدولارات، في الوقت الذي لا يخفي فيه هؤلاء أهدافهم، التي يصارعون من أجلها منذ سنوات، ممثلة في إنكار السنة النبوية، والتفسير الشيطاني للقرآن الكريم، من خلال الماسونية العالمية، والفاتيكان، ومركز راند، وتحالف أبراهام، والكيان الصهيوني، وغير ذلك كثير، تحت سمع وبصر الأنظمة الرسمية.

بالمتحف المصري

المؤكد أنه في العالم العربي لا يستطيع أحد إشهار جمعية خيرية بهذه الأريحية، فما بالنا بمن يريد إشهار مؤسسة تهدف إلى الدفاع عن صحيح البخاري على سبيل المثال، أو مؤسسة تتصدى لهؤلاء اللادينيين، أو عقد ندوة بالمتحف المصري تثبت أن العديد من الأنبياء جاؤوا إلى مصر، والعديد أيضا دفنوا بها، على خلاف ما صرح به وزير الآثار الأسبق الدكتور زاهي حواس، الذي ينفي وجود أي من أنبياء الله بأرض مصر، أو حتى إقامة ندوة للرد على كثير من الترهات التي وردت على لسان الدكتور علي جمعة، المفتي العام الأسبق، حول علاقة الذكور بالإناث خارج النطاق الشرعي، أو عن ما يسميه “طهارة المخدرات” أو تناول المسكرات، وغير ذلك كثير.

الغريب في الأمر، أن كل ذلك يأتي بالتزامن، وهو ما يشير حسب التفسير العام لمزاج الشارع، إلى أن هناك حدثًا خطيرًا في الطريق، ينبغي التغطية عليه، أو الإلهاء عنه، حسبما جرت العادة في السابق، بترويج شائعات مثيرة تتعلق خصوصًا بالعاملين في مجالات الفن والرياضة والمال والأعمال، إلا أن الحالة الآن تتعلق بإنشاء مؤسسات تستهدف الدين، وتدشين اتحادات تهدد الوحدة الوطنية، وهو ما يجعل الأمر مختلفًا من كل الوجوه، ويضع الحالة المصرية على صفيح ساخن.

وبالنظر إلى الأحداث الثلاثة المشار إليها، ممثلة في مؤسسة تكوين، واتحاد القبائل العربية، وإنكار وجود أنبياء في مصر، سوف نكتشف أننا أمام متناقضات غريبة، ذلك أن اسم المؤسسة “تكوين” وهو نسبة إلى سفر التكوين، (قد يكون لأهداف خاصة بالتمويل أو عقيدة المؤسسين)، إلا أن ذلك السِفر قد جاء في نصه -على سبيل المثال- في الإصحاح الـ50 والأخير: “ثم مات يوسف (سيدنا يوسف) وهو ابن مئة وعشر سنين فحنطوه ووضع في تابوت في مصر”، وذلك ردّ صريح على موضوع عدم وجود أنبياء بمصر، وذلك في الوقت الذي يتعارض فيه إنشاء هذه المؤسسة وإنكار وجود الأنبياء معًا، مع عقيدة القبائل العربية، التي من المفترض أن تكون درعًا يدافع عن العقيدة الإسلامية بحكم انتماء أفرادها.

غثاء السيل

كل ذلك يؤكد أننا أمام مخططات لم تحصل على حقها من الدراسة أو الحكمة، ذلك أن أمثال التكوينيين هؤلاء، قد مر على الإسلام والمسلمين منهم الكثير، لكنهم كانوا كغثاء السيل، كما لم تفلح قط مثل تلك الاتحادات الطائفية والعرقية والقبلية في مصر بشكل خاص، ذلك أن الشعب المصري قد اندمج بحكم الانتشار والمصاهرة في بوتقة واحدة، لا تجدي في تفتيتها دسائس أنظمة سياسية، ولا مخططات قوى خارجية، في الوقت الذي حفظ لنا القرآن الكريم قصص الأنبياء والرسل إلى أن تقوم الساعة، في كتاب {لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}. (سورة فصلت).

نحن إذن أمام أوضاع شاذة، يحكمها العته والتخبط والهذيان، سوف تصبح من الماضي بسرعة فائقة، مع نهاية الأنظمة التي تحميها، ومزبلة التاريخ شاهد عيان، ذلك أنها حوت الكثير من مثل هذه الترهات عبر سنوات طويلة من عصور الانحطاط، سواء تعلق الأمر بالمرتزقة الذين دأبوا على النيل من الثوابت الدينية، أو المتآمرين الذين سعوا إلى شق صف الأمة، أو المنافقين الذين حمّلوا التاريخ ما ليس فيه، لخدمة أهداف بغيضة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

المصدر : الجزيرة مباشر