الجامعات الأمريكية وتوءم الصهيونية والدكتاتورية عندهم وعندنا

جمهور المباشر يتفاعل مع مظاهرات الجامعات الأمريكية. (منصات التواصل)

بدت مدهشة إلى حد الصدمة مقاطع الفيديو المتداولة لحضور وعنف الشرطة الأمريكية داخل حرم العديد من الجامعات المرموقة بالولايات المتحدة. ضحايا العنف ليسوا في الطريق العام، أو من السود.

وهذه المرة هم طلاب وأساتذة أكاديميون يعبرون عن رأيهم سلميا من أجل وقف الإبادة الصهيونية الأمريكية الإسرائيلية في غزة وتورط الجامعات في تطوير برامج وأسلحة الإبادة، ومقاطعة أكاديمية مشابهة لما كان ضد نظام “الأبارتهايد” بجنوب أفريقيا. وأيضا من أجل الشفافية في إدارة استثمارات وتمويلات أبحاث تكنولوجية عسكرية وأمنية محاطة بالسرية.

الآن أكثر من أي وقت مضى يدور هناك نقاش مهم حول الصهيونية والديمقراطية والحريات. وهذا ما يجرى خارج منطقتنا وإقليمنا، المصاب بطول بقاء الاستبداد والفساد والتخلف، مع إدمان انتهاز كل فرصة للطعن في الديمقراطية وجدارة الإنسان عندنا بها ومساواتها بالدكتاتورية تبريرا لدوام واقع بائس.

هناك يجرى حراك شعبي يعيد اكتشاف معاني الإنسانية والديمقراطية والعدالة والتحرر على وقع حدث 7 أكتوبر العظيم وما بعده. وفي القلب من هذا النقاش والحراك يطل الصراع حول تنزيل هذه المعاني إلى أرض الواقع.  وهكذا تلوح مرحلة جديدة للمعركة الكبرى ذات الأبعاد الاجتماعية والسياسة والثقافية داخل المؤسسات وخارجها دفاعا عن المكتسبات الديمقراطية للمواطن والطبقات غير الحاكمة خارج دوائر الثروة والنفوذ. وهي بالأصل مكتسبات وليدة نضالات وتضحيات تجاوزت القرنين ولا تتوقف. ولا يزعم روادها أنهم بلغوا تحقيق كامل إنسانية الإنسان وتحريره، أو حققوا تمام الديمقراطية.

وينطوي كل هذا على مقارنات مع حركات الطلاب واليسار والحقوق المدنية داخل الولايات المتحدة المناهضة لحرب فيتنام نهاية الستينيات وتأثيرها على قرار واشنطن وقف الحرب 1975. وبالطبع إلى جانب العنصر الأساس والمحرك الرئيس، وهو نضالية مقاومة مسلحة وشعب صمدا أمام وحشية الإمبريالية الأمريكية لنحو عشرين عاما وهزمها.

 

“سفر الخروج” الجديد

من أجل الديمقراطية

وسط هذا الحراك الجاري هناك، لم تكن صدفة أو حدثا خارج السياق أن تلقى المفكرة التقدمية اليهودية “نعومي كلاين” الأكاديمية الكندية خطابا في نيويورك، حيث احتجاجات جامعة كولومبيا، يترجم ما بلغه نضج التيار المناهض للصهيونية بين اليهود متدينين وعلمانيين، واتساعه وتجذره. وهذا التيار يشارك الآن بقوة في حراك الجامعات بالولايات المتحدة والعديد من الدول الغربية، وبعدما أعلن عن صعوده التاريخي عبر تعبئة جماهيرية ناجحة في احتجاجات الشوارع منذ بدء حرب الإبادة على غزة أكتوبر الماضي.

ليس صدفة أو خارج السياق أن تدعو “كلاين” في خطابها، الذي نشرته صحيفة “الجارديان” البريطانية كمقال رأي يوم 24 أبريل/ نيسان 2024 تحت عنوان ” نحتاج إلى ( أكسوديوس/ خروج جماعي) من الصهيونية”، إلى تحرر يهودي وإنساني شامل منها. وقد استدعت مع مناسبة “عيد الفصح” هذا العام التراث الديني اليهودي، مع انتقاد جوانب منه.

قامت على نحو خلاق مبدع بتوظيف عبادة اليهود زمن النبي “موسى” للعجل الذهبي لتمسك بأسطورة “صنم الصهيونية المزيف”، وباستغلالها أيديولوجيا وسياسيا لقصة عيد الفصح/ خروج موسى باليهود من مصر هربا ونجاة من طغيان الفرعون لتحولها إلى تبرعات مالية سخية وأسلحة وحشية من أجل سرقة استعمارية لأرض شعب فلسطين ودياره، ولخرائط تطهير عرقي وإبادة جماعية.

كما استدعت من “سفر الخروج” تقتيل الطاغية فرعون للأطفال اليهود خوفا على دوام عرشه واستبداده لتقارنه بتقتيل الصهيونية لأطفال فلسطين بدافع الخوف على “الدولة اليهودية” من التهديد الديموغرافي لأغلبية أصحاب البلد.

والأهم هنا أنه ليس صدفة أو خارج السياق تشخيص خطاب “كلاين” بقوة ووضوح لجناية الصهيونية على الديمقراطية والحريات والحقوق في داخل فلسطين المحتلة 48 “إسرائيل”، وعلى محيطها العربي بما في ذلك مصر، وحتى داخل الولايات المتحدة والغرب، مع اصطناعها حرية مزيفة أو “تحررا قبيحا” لليهود، وفق تعبيرها.

ولذا أخال أن ما تفصح عنه “كلاين” وتفعله، ومعها كتلة كبيرة وازنة من يهود الولايات المتحدة والغرب بأسرة ناشطة ضمن تيار عارم من مناهضة الصهيونية وحربها الإبادية، يعد بمثابة “سفر خروج جديد تقدمي ” خال من التفسيرات والخرافات الدينية العنصرية، ومن أجل انتصار الديمقراطية وتحرر الإنسان في كل مكان. وهو سفر يعلن على هذا النحو ميلاده من نيويورك، ومن حرم جامعات النخبة بأنحاء الولايات المتحدة.

 

فتح جراح

إجهاض الديمقراطية عندنا

ما يجرى هناك الآن ومنذ أكتوبر 2023، يدعونا هنا في منطقتنا لفتح جراح تطورنا الديمقراطي المجهض مرة تلو أخري. وهذا أفضل وأجدى من توظيف مشاهد قمع حركة التحرر الإنساني ومن الصهيونية، سواء في الولايات المتحدة وقبلها ألمانيا، للعن “الديمقراطية” والاستهزاء بها واستبعادها ونبذها تماما. ومن ثم إضفاء الشرعية على واقعنا غير الديمقراطي الأكثر بؤسا وتبريره.

بعد هزيمة يونيو/ حزيران 1967 كان بالإمكان أن ترتفع أصوات بيننا لتنبه إلى توظيف الأنظمة “القومية العروبية” عسكرية أو حزبية أيديولوجية شبه عسكرية بعد نكبة 1948 إقامة “إسرائيل ” وخطر الصهيونية لمصادرة الحقوق والحريات، وكي تمارس دور “قاطع الطرق” على الديمقراطية وتداول السلطة ومراقبتها ومحاسبتها ونقدها. وفي الأغلب لم يكن “تحرير فلسطين” عند هذه الأنظمة إلا شعارا خاليا من مضمون أو فعل، وتختلط فيه حسن النيات بسوئها، وكذا بغيابها.

ولعل الوجه الآخر لهذه العملة أن تستمد بدورها أنظمة وحركات وتنظيمات بالمشرق العربي ترفع رايات الدين والإسلام منذ ثلاثينيات القرن العشرين الشرعية والشعبية من التماثل والمحاججة، وربما التشبه والمحاكاة، مع الأسس الدينية للمشروع الصهيوني “دولة إسرائيل اليهودية ولليهود” في قلب العالم العرب: فلسطين.

وهذا المتغير مازال يستحق المزيد من البحث والدراسة. وهو في الظن أبعد كثيرا مما تم توثيقه وكتابته عن نموذج ومثال تحول المفكر “سيد قطب” إلى الإسلام السياسي و”الإخوان” بعد ابتعاثه من جانب وزارة المعارف المصرية للولايات المتحدة بين 48 و1950، وعلى ضوء ما رآه ووعاه من نفوذ اليهود وصعود الصهيونية كأيديولوجية سياسية تستلهم الدين لاصطناع “قومية” ولإقامة “دولة”، فضلا عن نظرته لمادية المجتمع الأمريكي و”لاأخلاقيته”.

وعلى كل حال، وبعد هزيمة 1967، عادت أنظمة وحركات وتنظيمات دينية إسلامية لتقوى وتنتشر جماهيريا جراء انكشاف وخيبات الأنظمة القومية العروبية عسكرية أو حزبية أيديولوجية شبة عسكرية. وكذا بالطبع من تنامي السخط الشعبي على سوء توظيف هذه الانظمة لشعارات “تحرير فلسطين” ومواجهة الصهيونية كي تقمع الحريات وتصادر الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين، وتمارس الفساد بلا رقابة أو عقاب.

 

سلام “السادات”

وسنواته الأخيرة

لكن لا هذا ولا ذاك كل ما في الصورة عندنا. فمنذ تبني أنظمة عربية صراحة الصلح مع إسرائيل والقبول بالصهيونية والتطبيع، وإنطلاقا من “كامب ديفيد” في مصر نهاية السبعينيات وحتى “الاتفاقات الإبراهيمية” مؤخرا من الخليج إلى المغرب مرورا بالسودان، سرعان ما اتضح أن هذه السياسة لا تجلب بدورها إلا المزيد من القمع والاستبداد والفساد. وأصبحنا أمام قانون حاكم اختبرناه خلال تجارب عديدة، وهو: الدكتاتورية تحمي التطبيع والتطبيع يحمي الدكتاتورية.

ولعل التجربة المصرية كانت رائدة ومنبئة. فمن رحم السنوات الأخيرة القاسيات الأكثر استبدادا وفسادا لحكم “السادات” مع القبول بالصهيونية والتصالح معها، يمكننا ملاحظة كيف ولد وتطور لعقود تالية تيار “سلطوي تطبيعي” بين مثقفينا يدعي تبني “الليبرالية” و”الديمقراطية” ويرفع شعاراتها، ويلتحق “بالنيوليبرالية” الصاعدة من الغرب وعالميا؟. لكنه كان ومازال يسهم في التمكين لكل ما هو عكس الحريات والحقوق والديمقراطية وتداول السلطة والشفافية ومحاربة الفساد، مع كراهية واحتقار أغلبية المواطنين.

وهذا ليس فقط لأن التطبيع مع إسرائيل والقبول بالصهيونية عندنا خيار وممارسة “أقلية سلطوية متسلطة”، وبالمخالفة لما تعيه وتتبناه الأغلبية بين الشعوب العربية. بل وأيضا، جراء جناية الصهيونية والقبول بها ومزيد التمكين لها على فرص الديمقراطية عندنا. وقد أشارت “كلاين ” بدورها في خطابها/ مقالها إلى أحوال جوار فلسطين المحتلة، ودعم الصهيونية لاستمرار التخلف و”الثيوقراطية” والدكتاتوريات.

وهذا هو الحال وفق نتائج البحث والتدقيق بالوثائق الذي قام به الباحث الأمريكي “جايسون برادلي” في رسالته الأكاديمية، فكتابه “إجهاض الديمقراطية” بشأن حالة مصر خلال 40 سنة اعتبارا من 1974، وعبر علاقات مع واشنطن هدفها الأول مصالح الصهيونية وإسرائيل وأمنها.

 

بين تحررهم وتحررنا

الجمعة 26 أبريل/ نيسان 2024 ظهر مقال في “هآرتس” بعنوان لافت:” إسرائيل خسرت جامعات أمريكا وربما تخسر البيت الأبيض” لـ”إفرات رايتن”. ونبهت كاتبة المقال إلى تحول اجتماعي سياسي بالولايات المتحدة بدأ منذ سنوات، وحيث أصبح المزيد من الشباب يربط بين الصهيونية والقمع والإمبريالية، ولدرجة إنكار حق إسرائيل في الوجود، وصولا إلى انتشار شعار: “فلسطين من البحر إلى النهر” الآن. ولذا توقعت نتائج خطيرة على مستقبل إسرائيل بعدما وصل هذا التحول إلى شباب جامعات النخبة، والذي سيتولى مسئولية القرار السياسي بواشنطن بعد سنوات.

يوما بعد يوم يتزايد الوعي بأن هناك بالولايات المتحدة والغرب تجرى معركة شرسة مفتوحة من أجل تحرر اليهود والإنسانية من الصهيونية واقترانها الوثيق كتوأم مع الرأسمالية وتطورها وتجلياتها دكتاتوريا وفاشيا و”نيوليبراليا”. معركة أطلقت شرارتها في هذا المرحلة مقاومة الشعب الفلسطيني في 7 أكتوبر/ تشرين الثاني وصموده ضد حرب الإبادة، وكي تشجع على تحطيم الأصنام والأساطير الزائفة للصهيونية الإجرامية.

ونحن هنا مطالبون، على الرغم من واقع القيود والتخلف، بشق طريق لنا كي نتحرر بدورنا من أصنامنا المتحالفة مع صنم الصهيونية، أو تلك المتشبهة بها، ولو من مواقع القول بالمنافسة والتصدي والأخذ بذات أسبابها.

ألم يحن الأوان أن نكسر حصار إنسانا، ونخوض معركة تحريره من أصنامه هو أيضا، وبخاصة تلك التي تزامنت عبادتها مع الصهيونية؟.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر