سمير العركي يكتب: مشاهد من الانتخابات التركية

فارتباط أردوغان بالعدالة والتنمية في الوعي الجمعي للشعب التركي لن ينفصم فهو أحد مؤسسيه وأكثرهم أهمية، وهو الرئيس القادم من حي قاسم باشا الفقير في اسطنبول.. يتبع.

سمير العركي*

إعلان

الانتخابات النيابية التركية -التي تمكن حزب العدالة والتنمية من تحقيق فوز تاريخي غير متوقع فيها- فرضت  نفسها وبقوة علي دوائر الإعلام والسياسة ، لتبعاتها ومآلاتها المباشرة على الوضع الداخلي التركي إضافة إلى الوضعين الإقليمي والدولي .
لذا كان سيل التحليلات المتدفق قبل وبعد إعلان الانتخابات انعكاساً لهذا الاهتمام، ومن هنا فإن هذا المقال ليس معنياً في المقام الأول بالتحليل السياسي بقدر محاولته نقل العديد من المشاهد المهمة التي ربما تغيب تحت وطأة لغة التحليل والأرقام ، خاصة وقد قدر لي أن أشاهد أربعة استحقاقات انتخابية ما بين بلدية ورئاسية ونيابية بعد استقراري في تركيا قبل حوالي عامين.
المشهد الأول هنا يتعلق بالحملات الانتخابية والتي تتميز بالقوة والتنظيم والابتكار ، حيث يجتهد كل حزب لجذب الناخب إليه عبر الأغاني والأناشيد التي تلعب دوراً مهماً في جذب الصوت الانتخابي، فأغنية ” الشارة ” – على سبيل المثال – التى ألفها وأداها المغني التركي “أوغور إيشيلاق” ساهمت في رفع نسبة حزب العدالة والتنمية في انتخابات البلدية مارس/آذار 2014 بحوالي 3% ومازال الحزب يستخدمها حتى الآن .
وبرغم حرص الأحزاب المختلفة على تجويد وتنويع حملاتها الانتخابية إلا أن حزب العدالة والتنمية أظهر تفوقاً واضحاً عليهم ، ويظل مهرجانه الانتخابي الثابت – في جميع الاستحقاقات – في ساحة ” يني كابي ” باسطنبول هو الأروع والأكثر حضوراً، حيث  يتجاوز عدد المشاركين فيه مليوني شخص.
مشهد آخر جذب انتباهي بشدة وهو الحضور “الأردوغاني” الطاغي على المشهد الانتخابي برغم أنه – وبحكم الدستور – فوق الأحزاب، فهجوم المعارضة والوسائل الداعمة لها داخل وخارج تركيا كان منصباً على “أردوغان” في المقام الأول وليس على رئيس حزب العدالة والتنمية الحالي “أحمد داود أوغلو” كما أن مؤيدي العدالة والتنمية كانوا يشعرون داخلهم أنهم يصوتون لـ”أردوغان” وقد سألت العديد من الأتراك قبل الانتخابات عن اختياره ، فكان أكثرهم يرد بتلقائية وعفوية : “أردوغان” !! فأبتسم وأقول لهم : ولكن “أردوغان” ترك الحزب !! فيردون نقصد العدالة والتنمية . فارتباط” أردوغان” بالعدالة والتنمية في الوعي الجمعي للشعب التركي لن ينفصم فهو أحد مؤسسيه وأكثرهم أهمية، وهو الرئيس القادم من حي قاسم باشا الفقير باسطنبول ، والذي لا يخجل من ترديد أنه كان يبيع يوما ما “السميط ” للإنفاق على نفسه ، لذا فالشعور الشعبي تجاهه أنه واحد منهم حقيقة لا شعاراً ، ولا أنسى ذلك السائق العجوز وهو يحدثني عن “أردوغان” بكل قوة وجسده يرتج بشدة  ويقول : “أردوغان” رجل .
وأظن أن تكثيف هجوم المعارضة على شخص أردوغان جاء بنتائج عكس ما كانوا يتمنونه ، فنتائج الانتخابات تؤكد أن الشعب التركي أبرق رسالة واضحة وهي عدم السماح بإسقاط “أردوغا”ن الذي تمكن من احتلال مكانة بارزة بجوار أهم الساسة في تاريخ الجمهورية التركية أمثال: كمال أتاتورك، وعدنان مندريس، وتورغوت أوزال، ونجم الدين أربكان.
كما تمثل المشاركة الجماهيرية الواسعة واحدة من أهم المشاهد الانتخابية ، إذ يحرص المواطن التركي على الإدلاء بصوته ، فمتوسط نسبة المشاركة في الانتخابات منذ إقرار التعددية الحزبية في الجمهورية التركية 82.4% ووصلت في الانتخابات الأخير إلى أكثر من 87% . وبالرغم من هذه الأعداد الهائلة التي تخرج للتصويت فإن العملية الانتخابية تتم في يوم واحد فقط على مدار تسع ساعات ، وفي ذات الليلة يمكنك معرفة النتائج غير الرسمية من خلال متابعة عملية الفرز التى تنقلها وسائل الإعلام بالصوت والصورة ، كما أنها تحظى بمراقبة شعبية إذ يحق لأي مواطن تركي حضور فرز الأصوات فى أي لجنة وعدم اقتصارها على مندوبي الأحزاب والمرشحين فقط .
وفي الإطار نفسه، لايمكنك وأنت تتابع الانتخابات في تركيا إلا أن تسجل تقديراً للسلوك السياسي للمواطن فرغم حدة المعارك الانتخابي ، فإن الهدوء هو أهم ما يميز الناخب هنا، فلن تسمع في وسائل المواصلات أي حوارات سياسية كالتي ألفناها في بلادنا والتي كانت كثيراً ما تبدأ بحوار سياسي محض ثم سرعان ما تتحول إلى الخوض فى الأمهات والأخوات وكل المحارم !
وقد حرصت على سؤال العديد من الزملاء الأتراك عقب عودتهم من التصويت مباشرة عن اتجاهات الناخبين فيردون علىّ باستغراب : وكيف لنا أن نعرف؟ فأقول لهم ببراءة تليق بمثلي لم ينعم من الممارسة السياسية الحقيقية إلا بسنتين فقط : من النقاشات بين بعضكم البعض قبل الدخول للجنة التصويت . فيردون علىّ بدهشة : نحن لا نتناقش مع بعضنا، وكل واحد يعرف ماذا سيفعل!
هذا السلوك الرائع ساعد على اختفاء مظاهر التوتر من الشارع التركي، واحترام الجميع لنتيجة الانتخابات فلن تسمع حديثاً ولو همساً عن تزوير الانتخابا . فالخبرة السياسية التركية لا تعرف شيئاً اسمه التزوير حتى في ظل الانقلابات العسكرية، وهو ما كان يشجع الأحزاب التركية عقب كل انقلاب على مواصلة المشاركة السياسية.
وبقدر ما كانت الانتخابات التركية بمثابة زلزال سياسي، فإنها حافلة بالدروس المجتمعية الهامة التى قد نحتاج إليها يوماً ما.
_______________________________

*كاتب وباحث مصري

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه