عصام تليمة يكتب: اكتشاف حسن البنا لمحمد الغزالي

قال: أتحب المرشد إلى هذا الحدّ؟ وأجبت ببراءة: نعم!… وعرفت فيما بعد أن ناسًا كانت تشكك في ولائي للدعوة وقائدها، لأني كنت في مناسبات وجلسات مختلفة أعترض أو أرفض ما لا أسيغ.. على أن حسن البنا كان أذكى وأكبر من أن تغيِّره تعليقات المبغضين. يتبع

إعلان

عصام تليمة*
لا يكاد يوجد داعية معاصر إلا وتأثر بكتابات محمد الغزالي رحمه الله، فقد تنوعت مؤلفاته بين مجالات الفكر الإسلامي، إضافة لقلم الرجل الأدبي المتفرد بين أقرانه ومعاصريه من الدعاة والمفكرين، فكيف تم اكتشاف هذا القلم؟

لقد بدأ الغزالي الكتابة، ولم ينشر ما كتبه، فقرر ترك الكتابة، إلا أن حادثا معينا قطع عليه هذا اليأس، يقول رحمه الله: وفي أثناء الدراسة وقع لي مع الأستاذ المرشد (حسن البنا) شيء سارٌّ، كان له وقع عظيم في حياتي… كتبت يوماً مقالاً، وأرسلته إلى مجلة الإخوان، وارتقبت نشره، فلم ينشر، وساء ظني بنفسي فتركت الكتابة…
وبغتة تلقيت بالبريد رسالة من المرشد العام، عرفت فيما بعد نبأها… لقد دخل إدارة المجلة وساءل الأستاذ صالح عشماوي رئيس التحرير: لماذا لا أقرأ للإخوان مقالات جيدة؟ وما السبب في ضعف المجلة؟ ومدّ يده -غير متعمد- إلى ملف المحفوظات المنتفخ بالمقالات التي رُئي عدم نشرها، ووقع بصره على مقالي! وغضب غضباً شديداً لإهماله، وأمر بجعله “افتتاحية” العدد المقبل.

وبعث إلى برسالة شخصية هذا نصها: “أخي العزيز الشيخ محمد الغزالي، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته –قرأت مقالك “الإخوان المسلمون والأحزاب” فطربت لعبارته الجزلة، ومعانيه الدقيقة، وأدبه العفِّ الرصين، هكذا يجب أن تكتبوا أيها الإخوان المسلمون. اكتب دائماً وروح القدس يؤيدك والله معك. أخوك حسن البنا، المرشد العام للإخوان المسلمين”. وأصبحت بعد هذه الرسالة من كتاب الجماعة الأوائل، واستبشرت بأن الله سيلهمني الرشد فيما أكتب.

ثم انطلق الغزالي يملأ الدنيا كتابة، وكان لا يزال طالبا في كلية أصول الدين، وبدأ سيل علمه يتدفق، ثم أنشأ الإخوان المسلمون (النظام الخاص) وأراد الغزالي الانضمام إليه، يقول رحمه الله: وفي هذه الآونة أنشئت فِرَق العمل، أو ما سمِّي بعد ذلك بالنظام الخاص، وأساس تكوينه مواجهة الوضع في فلسطين، بعد عربدة العصابات اليهودية فيها، وإتمام تحرير مصر بالسلاح إذا لم يخرج الإنجليز طوعا… وكتب اسمي بين عدد كبير من المرشحين للتدريب… وعُرضت قوائم الأسماء على الأستاذ المرشد، فلم يوافق على تجنيدي! وقال له المسؤول عني، هذا رجل مخلص! فقال له: أعرف ذلك من قبلك، لكن هذا نظام عسكري يتطلب طاعة مطلقة…
والشيخ الغزلي يعترض على ما لا يروقه من أوامر، ويقول لك: ما السبب؟ وأين الدليل؟ ثم هو لا يحسن الكتمان، إذا سخط بدا سخطه على وجهه، والسرية المطلقة أساس هذا النظام…! دعوه يكتب ويخطب وينشر الدعوة الإسلامية في الميدان الذي يصلح له ولا يصلح لغيره… وغضبت عندما بلغني هذا الحوار، وبقيت كسير الخاطر أمداً، وإن كنت أؤدي عملي برتابة ووفاء…وجاءني يوماً الأستاذ محمد فريد عبد الخالق، وهو من أنضج رجال المركز العام، جاءني يزورني في البيت، ورأى على الجدار شيئاً أثار انتباهه، قال: ما هذا؟ وأمسك بإطار ساذج، فيه صورتي بملابس التدريب العسكرية مثبتة في فراغ كتاب موجه لي من الأستاذ المرشد العام، الكتاب الذي أثنى عليّ فيه ودعا لي بخير!
قلت: هذا أثر أعتز به! قال: أتحب المرشد إلى هذا الحدّ؟ وأجبت ببراءة: نعم!… وعرفت فيما بعد أن ناسًا كانت تشكك في ولائي للدعوة وقائدها، لأني كنت في مناسبات وجلسات مختلفة أعترض أو أرفض ما لا أسيغ… على أن حسن البنا كان أذكى وأكبر من أن تغيِّره تعليقات المبغضين).
لقد كان اكتشاف محمد الغزالي العالم والداعية المفكر من عمل حسن البنا الصالح، الذي أحسن اكتشافه، وتوظيفه فيما يصلح له، وقد كان البنا سببا في توجيه الشيخ سيد سابق لكتابة فقه السنة، الكتاب الذي دخل معظم بيوت المسلمين، يفقههم في أمر دينهم، وهكذا دوما تكون القيادة الناجحة في استثمار طاقة الأفراد فيما يحسنونه، وفيما يفيد، فهناك من يكتشف الأقلام وينميها، ويطور من أدائها، وهناك من لا يمتلك سوى قصف الأقلام، ومحاصرتها، وطردها من كل كيان علمي أو دعوي، لأن وجودها يكشف زيفه وضحالته.
____________________________

*من علماء الأزهر

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه