الحكومة التركية تحرق ورقة داعش بيد خصومها

الذين كانوا يصرخون بأعلى صوتهم متهمين الحكومة بالتحالف مع داعش، وقعوا في حيرة من أمرهم، وجاءت تصريحاتهم عموماً رافضة لحرب يدفع ثمنها جنود أتراك.. يتبع.

إعلان

عبد القادر عبد اللي*
يعزف العديد من الأطراف السياسية الداخلية التركية التي تبدو للوهلة الأولى متناقضة (علمانية، شيوعية، شيعية، كردية، علوية…” موشحاً واحداً وهو أن حكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا داعشية.
لم يكن الأمر يحمل كثيراً من الأهمية بالنسبة إلى الحكومة التركية سابقاً، لأن الاتهام بقي في حدود النقد الكلامي المسموح به، والذي يكفله الدستور والقانون. ولكن ما الذي جعلها تتحرك الآن لتخطو خطوة ضد داعش تفوق بأهميتها ما قام به التحالف الدولي منذ تشكيله إلى الآن؟
لا أحد ينكر أن الأكراد عانوا من اضطهاد قومي استمر سنين طويلة، وخاضوا نضالاً طويلاً جعلهم يغيرون تحالفاتهم التكتيكية في مختلف الظروف التاريخية. وبما أن أغلب تحالفاتهم في المنطقة كانت مؤقتة، فلم يعوّلوا عليها كثيراً. لأنهم عندما يتحالفون مع النظام الإيراني أو نظام الأسد في سورية ضد صدام حسين، كانوا على وعي كامل بأن أخوتهم في إيران أو تحت حكم آل الأسد مضطهدين. ولكن داعش منحتهم فرصة تحالف من النادر أن يحظوا بها. فعلى الرغم من ورود اسم حزب العمال الكردستاني “بي كي كي” على قوائم الإرهاب الأمريكية، تمكن امتداده في سورية حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي “بي ي دي” من انتزاع تحالف مع الولايات المتحدة في الحرب ضد داعش. وحقق انتصاراً على هذا العدو.
بعد هذا التحالف بدأت البنى السياسية التابعة لهذا الحزب في تركيا باتخاذ مواقف أكثر تشدداً. فعلى الرغم من إعلان ما يسمى “وقف العمليات” بين العمال الكردستاني والحكومة التركية، شنت العديد من الهجمات على مواقع عسكرية تركية، وكانت الحجج دائماً بأنها “عمليات أقدمت عليها الدولة التركية العميقة من أجل تخريب مرحلة السلام”، أو “أعمال فردية لا تمثل الخط العام للعمال الكردستاني”.
بالمقابل، مع اشتداد الصراع في سورية، جرت عمليتان ضد أنصار الجناح السياسي لهذا الحزب “حزب الشعوب الديمقراطي” كانت الأولى في تجمع انتخابي في مدينة ديار بكر، والثانية قبل فترة قريبة في ناحية “سوروتش” ضد تنظيم صديق هو “اتحاد الروابط الاشتراكية” وراح ضحية هذه العملية الإرهابية اثنان وثلاثون شاباً من طلاب الثانوية والجامعات لم يبلغ كثير منهم سن الرشد. ووجه “حزب الشعوب الديمقراطي” أصابع الاتهام إلى الحكومة التركية مباشرة، باعتبار أن المتهم داعش، وأن داعش والحكومة التركية واحد.
من ناحية أخرى توسعت دائرة الصراع في الشمال السوري، ودخل حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي “بي ي دي” إلى تل أبيض وبعض القرى المجاورة، وتعتبر تركيا هذا الحزب جزءاً من العمال الكردستاني، وتقدم الدليل على ادعائها التوابيت التي تدخل بشكل شبه يومي من مناطق الصراع إلى تركيا من أنصار العمال الكردستاني. ورفضت تركيا دخول هذا الحزب إلى مناطق عربية وتركمانية، واعتبرت الأمر تطهيراً عرقياً.
ضغطت الولايات المتحدة الأمريكية على تركيا كثيراً من أجل إدخالها في التحالف الدولي ضد داعش، ولكن تركيا طالبت بثمن لهذا الدخول، ولو جمعنا ساعات الاجتماعات المباشرة بين الطرف التركي والأمريكي، والاتصالات الهاتفية المعلنة فقط، لبلغت مئات الساعات، وأخيراً تم التوصل إلى حل وسط، وهو إقامة مناطق آمنة داخل سورية بحيث تراعي هذه المناطق الوجود الكردي (تسميها الولايات المتحدة مناطق خالية من داعش)، بمعنى آخر، لن تدخل المناطق الكردية الحزام الآمن، الذي هو آمن أساساً لا تقصفه طائرات النظام السوري.
كان واضحاً أن هدف الولايات المتحدة من التحالف مع العمال الكردستاني هو الضغط على تركيا من أجل إدخالها التحالف الدولي. لأن طائراتها تقلع من الخليج العربي والبحر المتوسط، وهذا ما يقلل فاعلية الضربات الجوية من جهة، ويجعلها أكثر كلفة. وفيما لو أقلعت من قواعد حلف الناتو في تركيا، لوفرت ثلاثة أرباع الكلفة المادية والزمن، وهذا يعطي القوات فرصة لمضاعفة الهجمات أربعة أضعاف.
هناك من يعتبر أن تركيا وقعت في الفخ الذي نصبته لها الولايات المتحدة الأمريكية، ودخلت الحرب، وهناك من يدعي العكس، بأن الاتفاق التركي الأمريكي هو أقرب للمطالب التركية، وستعلن قريباً أولى المناطق الآمنة، وستكون تحت سيطرة الجيش السوري الحر. ولكن إذا كانت تركيا قد وقعت بالفخ، فهي التي طالبت منذ مؤتمر جدة بتشكيل منطقة آمنة يلجأ إليها السوريون الهاربون من جحيم براميل الأسد وحسبة داعش، وهي الآن انتزعت اتفاقاً يتضمن غالبية المطالب التركية، وإذا لم يسمح لها بإدخال الكنتونات الكردية ضمن هذه المنطقة، فهي تمكنت من جعلها جزراً معزولة لا تتمكن من تحقيق الوحدة الجغرافية التي سعى إليها العمال الكردستاني.
لقد دخلت تركيا الحرب ضد داعش فعلياً، وفتحت قواعد الناتو للطائرات الأمريكية، وفرضت وجود ضباطاً أتراك في غرفة العمليات الرئيسة من أجل الحيلولة دون سيطرة قوات تتبع الأسد أو حزبي العمال الكردستاني والاتحاد الديمقراطي الكردي على أي منطقة تُحرر من داعش، وباتت رأس الحربة في الحرب على داعش، ومن المتوقع أن يُحدث دخولها الحرب على داعش فرقاً على الأرض.
داخلياً، الذين كانوا يصرخون بأعلى صوتهم متهمين الحكومة بالتحالف مع داعش، وقعوا في حيرة من أمرهم، وجاءت تصريحاتهم عموماً رافضة للحرب، وإدخال تركيا في حرب يدفع ثمنها جنود أتراك. علماً أن بعضهم حتى الأمس القريب كانوا يدعون لدعم الأسد في حربه ضد الإرهاب، وضد داعش تحديداً، فما الذي جرى؟
خارجياً حظيت تركيا بدعم دولي واسع جداً، فلم نجد دولة واحدة عارضت دخولها التحالف، وكان أهم التصريحات الملفتة هو تصريح الناطقة باسم الخارجية الإيرانية بإعطاء الحق لتركيا بمحاربة الإرهاب، ولكن طالبتها “باحترام السيادة” وكأن في سورية سيادة، وتبدو هذه العبارة كاريكاتورية جاءت في التصريح كنوع من فض العتب، لأن تركيا أكدت بأنها لن تُدخل جنوداً أتراك على الأرض.
في المفاوضات بين الدول من الصعب أن يحصل طرف ما على كل ما يطلبه من الطرف الآخر، وهكذا لا يمكن القول إن تركيا حصلت على ما تريده من الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها وجهت ضربة لحزب العمال الكردستاني، وهذا ما سيجعله يعود إلى السياسة، وقد بدأت ملامح المرحلة، وعرض بارزاني الوساطة، وتركيا منذ البداية تطالب بالحل السياسي.
ومن ناحية أخرى اتُخِذت الخطوة الأولى لتأسيس المناطق الآمنة، وبانتظار التجربة الإدارية لتثبت إمكانية استقطاب اللاجئين السوريين إلى هذه المناطق بعيداً عن التطرف بكل أشكاله.
هناك قوى داخلية وخارجية بنت سياساتها كلها على وجود تحالف بين داعش وتركيا، وكانت تلوح بهذه الورقة بمناسبة وبغير مناسبة، وبعد أن احترقت هذه الورقة بأيديهم، يبدو من الصعب أن يجدوا ورقة بديلة.

_______________________

*كاتب سوري متخصص في الشؤون التركية 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه